سعيد يقطين- كاتب مغربي
كتبت شلوميث ريمون كينان أنها في سنة 1987، سألتُ جنيت في ملتقى عن «موت» السرديات، فأجابني بابتسامة هادئة: «أتمنى أن يكون هذا مثالا للخطاب غير المباشر الحر؟». كان هذا الحوار قبل عشر سنوات على ظهور مصطلح السرديات ما بعد الكلاسيكية. ومعنى ذلك أن النقاش حول تطور، السرديات كان مطروحا أبدا.
في سنة 1991 خصصت مجلة (Protée) ملفا تحت عنوان «السرديات: حصيلة وضعية» كتب مقدمته فرانسوا جوست معلنا في البداية أن كلمة «سرد»( Récit) في المعاجم اللغوية تطلق فقط على ما يتحقق من خلال الكتابي والشفاهي، وأن السرديات لم تكن تتصل إلا بالرواية، مبينا أنها، مع الزمن، يمكنها أيضا أن تهتم بمجالات أخرى مثل الفيلم السينمائي، والرسوم المتحركة، والرسم، إلخ. ولذلك فهو يستعمل «السرديات» (بالجمع) معللا ذلك بكون تعدد هذه السرديات يعني أن هناك سرديات عامة، لا بد من وضع الحدود داخل مختلف تجلياتها.
وبعد وقوفه على مجمل الإشكالات المنهجية التي رسمها جنيت، بيَّن أن السرديات حققت نجاحات باهرة، وعليها أن تهتم بعطاءات اختصاصات أخرى، وبالأخص نظريات التواصل، والعلوم المعرفية، متسائلا عما يمكن أن تفقده السرديات بهذا الانفتاح؟ ودعا إلى أن تراجع أدواتها لمعاينة الوضع الذي انتهت إليه. صُدر هذا العدد بدراسة لجنيت عن «السرد غير الأدبي» والتطويرات المتصلة بقضايا تتعلق بالراوي، والمؤلف في السينما، والتحليل الأيديولوجي والموضوعاتي (لينتفلت) وإدماج السياق (دراسة ميك بال) وعلاقة السرديات بالسيرة الذاتية، وقضايا القارئ والمسرح والرسوم المتحركة.
إن مجمل القضايا التي يتداولها المنشغلون بالسرديات ما بعد الكلاسيكية، ظلت مطروحة منذ بدايات الثمانينيات لدى باحثين ينظر إليهم باعتبارهم دائما ممثلين للسرديات الكلاسيكية، خاصة جيرار جنيت، وميك بال.
نشر دونالد مورتون سنة 1993 دراسة تحت عنوان «أزمة السرد في حقبة ما بعد السرديات» صدّرها بقولة لريمون ـ كينان (1989) تؤكد فيها أن السرديات كانت إلى وقت قريب اختصاصا مزدهرا، وأنها في العقد الأخير من القرن العشرين تعيش حالة شلل تام.
إنه يؤكد هذه القولة، مبرزا أن «العلامة القوية لنجاح ما بعد البنيوية يكمن في هيمنة قبول اللايقين، على نطاق واسع، وقد صار بديهية لـ«اللعب» الأكاديمي المعاصر الذي يستهوي الأكاديميين والمثقفين المعنيين بتحليل السرد، ويدفعهم إلى عدم اتخاذ أي قرار.
ويستدعي هذا نوعا من التفسير لأنه ليس شرطا طبيعيا، لكنه تعبير عن حاجة تاريخية».
هذا التغيير الذي طرأ يكشف أن التحولات الكبرى في التحليل السردي تكمن في الصراع بين الخطابي والنصي من جهة، وبين المفهومي والنظري من جهة ثانية.
وقد نجمت عن هذا الصراع في تاريخ تحليل السرد ثلاث حقب متمايزة:
أ. مرحلة النظرية السردية التي امتدت إلى 1958 مع صدور كتاب «الأنثروبولوجيا البنيوية» لكلود ليفي ستروس التي ساد فيها النقد الجديد، والنزعة الجمالية، واستقلالية النص، وعلى المستوى الإبداعي هيمنة نموذج روايات هنري جيمس.
ب. مرحلة السرديات الكلاسيكية ( Classic Narratology) وهي التي انتقلت فيها دراسة السرد إلى العلم، والمطالبة بالصرامة والدقة. ويعطي مثال بارت في 1964 و1966.
ج. مرحلة ما بعد السرديات (Postnarratological stage) وهي المرحلة الحالية، مرحلة الأزمة، التي دشنت مع سنة 1979 مع تفكيك جوناثان كالر للمشروع البنيوي للسرديات؟ وبعد تشديده على كون المرحلة الأخيرة تشهد أزمة حادة بالقياس إلى المرحلة السابقة، يعدد الكثير من السمات التي جاءت نتيجة الانتقال إلى ما بعد البنيوية، ومن بينها: التشكيك في العلم، والانتقاص من النزعة العلموية، واتهامها بالبساطة، والاهتمام أكثر بالتحليل النصي على حساب النظرية، من جهة. ومن جهة أخرى التركيز على الروابط الاجتماعية والأيديولوجية والثقافية، أي كل ما يدخل في السياق، وما يتصل به. ويقدم أمثلة على ذلك مراجعة جنيت لمنطلقاته في كتابه «الخطاب السردي الجديد» (1983) وكذلك التطويرات التي سارت عليها ميك بال، وريمون ـ كنان.
لا نتفق مع مورتون جزئيا في تصنيف حقب تطور السرديات، ولا في ما ذهب إليه بخصوص ما قدمه جنيت وميك بال، وكينان، ولا في ادعائه أن التمييز بين القصة والخطاب لم يعد يثير الانتباه، لكننا مع ذلك نسجل عنصرين نراهما مهمين في تحقيبه للسرديات: أولهما إطلاقه على السرديات في المرحلة الثانية اسم «الكلاسيكية»، وكذلك وسمه المرحلة الثالثة بأنها مرحلة «ما بعد السرديات» ولا نتفق معه أيضا في القول بالأزمة التي عرفتها الحقبة الثالثة. وتسميته للحقبتين الأخيرتين سابقة على ديفيد هيرمان.
إن مرحلة «ما بعد السرديات» مرحلة وسطى بين السرديات، بالمفرد والجمع، والسرديات ما بعد الكلاسيكية. ساهم فيها السرديون الكلاسيكيون أنفسهم.
لكن انتقال السرديات خارج فضائها، جعل المشتغلين بالسرد، يقفون على المرحلة الكلاسيكية، وينطلقون منها لتشييد حقبة جديدة.
لا يمكننا المساهمة أو المشاركة في السرديات دون فهم ما قبلها، ومرحلة تأسيسها وتطورها إلى الآن.
إن أي مشروع محاط بشروط وإكراهات وتطلعات. وتعميق النظر في التاريخ في جزئياته، والوعي به، ضرورة ملحة للانخراط في إبدال العصر.