بقلم سعيد بنيس
مع تراجع الوساطة المجتمعية وانسحاب الأسرة والمدرسة والأحزاب والجمعيات المدنية والنوادي ودور الشباب … من معترك تربية الأطفال وتأطير اليافعين والشباب، توَلَّدَت عن هذا الفراغ وهذا التراجع هويات تعويضية “متوحشة” وذوات مندفعة “جارحة”.
كما أن انهيار منظومة القيم المتسارع تسبب في توهج ثنائية تتقابل فيها مصفوفة القيم المنشودة (العيش الكريم وتكافئ الفرص والعدالة المجالية…)، وتمظهرات واقع التفقير القيمي الذي أفضى إلى عدوى التسيب القيمي من خلال مقولات “قافز” – “واعر” – “مسمار” – “بريكاد”- “راجل”…
تتأرجح هذه التمثلات القيمية بين المعنى العام والمعنى الحقيقي في علاقته بالقدوة المجتمعية؛ فالقيم المنشودة تبنى على قاعدة متذبذبة وغير قارة تستمد قوتها من ازدواجية غير متجانسة إن لم نقل “مبغولة”، فمثلا “القفوزية” تحيل على “ذكاء جماعي” يرتبط بآلية تسلق مجتمعية تبدو “مثالية” ولا تخضع لمسائلة حقيقة ومنطق قصص النجاح لا سيما في حالة الحْرِيكْ.
لهذا فإن القيم الأخلاقية مثل العمل والجهد والصدق والنبل والالتزام والمثابرة والكد والتميز … تستقيل أمام قيم من قبيل قيمة “قافز”، “برو ماكس” و ” هارب” و “ناضي” لا سيما مع بروز “ريبرتوار” جديد من الممارسات الرقمية التي أفضت إلى ريع ديجتالي من خلال بعض “الشخوصات” الافتراضية مثل ” “المؤثر” و “اليوتبرز” و”ستريمر” …
فهل يمكن للوساطة المجتمعية بجميع قنواتها ومحاضنها (الأسرة والمدرسة والجامعة والحزب والجمعية والنادي …) في خضم هذا السياق الهجين أن تضبط مسار القيم والممارسات والاتجاهات الشبابية ومنها على الخصوص اتجاه الحْرِيكْ ؟
وارتباطا بعلاقة منظومة التعليم ودورها في الوساطة المجتمعية، يمكن الإقرار بأن العلاقة الواضحة التي أطرتها جل خطط الإصلاح كان هدفها ربط التعليم بسوق الشغل مع أن الهدف الأسمى للمدرسة هو ربطها ببورصة ومعاملات وسوق القيم أو بحسب بورديو إلزامها بمقتضيات وواقع “سوق الخيرات الرمزية”.
لهذا، فتصلب الوساطة المجتمعية في ظل المأزق الشبابي يشير إلى أن الانحراف السلوكي والاجتماعي أساسه انحراف قيمي وفشل في منظومة التنشئة الاجتماعية، مما نتج عنه ظهور استراتيجيات جديدة للتعويض لدى الأطفال واليافعين والشباب من قبيل “الرجولة منذ الطفولة” و”الانتماء للفرقة الناجية” و”ممارسات التشرميل” و”العدوانية المجانية” و”إقامة شرع الله في الأرض” و”قضاء الشارع” و “الحْرِيكْ كمشروع شخصي ” …
من هذا المنطلق، يبدو أن هذه الاستراتيجيات التعويضية بالإضافة إلى الشحن الرقمي والتعبئة الافتراضية والقناعات العدوانية وأساليب التحريض الديجيتالي تؤدي جميعها إلى الانحراف السلوكي والتوتر القيمي داخل مختلف الفضاءات والمواقع المجتمعية دون استثناء.
من المستعجل إذن الارتكاز على وساطة مجتمعية أساسها التحسيس بأهمية وعمق وجدوى “المواطنة الهادئة” للخروج من المأزق الشبابي بموازاة الإقرار بالحق في العيش الكريم، وواجب الترويض على العيش المشترك، واحترام الاختلاف وعناصر الرابط الاجتماعي، والتفاوض حول التنوع والتعددية، ونبذ جميع مرجعيات ثقافة الاحباط المجالي سواء منها المحلي أو الجهوي أو الوطني، والنأي بعيدا عن جميع أنواع الانهزامية الهوياتية الوطنية منها والفردية وكذلك الجمعية.