
بقلم محمد بوعلي
إن الحديث عن الإبداع والنقد الأدبيين حديث ذو شجون وشؤون عن موضوع يصعب على الدارس سبر أغواره وتحديد دلالاته، إلا من خلال استنطاق مختلف المناهج المعرفية عامة والنقدية خاصة، ابتغاء الوصول إلى تحديد مغزاه الكامن في كينونة منفية في متاهات الوجود المعرفي، وإقدار الدارسين على مجاراة تغيرات الإبداع وإبدالاته النقدية الجارفة، وصولا إلى امتلاك وعي بحتمية التطور وما ينجم عنها من اختلاف في الرؤى والتصورات بلوغا إلى الكتابة الإبداعية الخلاقة، حيث أسفر هذا عن تعدد الدارسين للنص الأدبي من زوايا تختلف حسب اختلاف منطلقاتهم المعرفية وتصوراتهم الاستشرافية، أبرزهم محمد مفتاح الذي أبدع للمتلقي حزمة من الكتب تفاعلا مع حركية الإبداع الأدبي نحو كتابه الموسوم ب “النص من القراءة إلى التنظير” إذ حاول من خلاله أن يطعّم نظرية التلقي بتسليط الضوء على قضيتين مركزيتين وهما الإبداع والنقد. فما هو إذن الإبداع ؟ وما هي آليات ابتكاره؟ وما علاقته بالنقد ؟ ومن يسهم في تطوره؟
يعد الإبداع سمة إنسانية يتسم بها منذ القدم، إذ تضفي عليه صبغة التطور والحركية في الوجود، ويظهر هذا جليا إذا تتبعنا مفهوم الإبداع من الفترة الهلينية إلى حدود اللحظة.
فالتوليد السقراطي وُلد من إبداع سقراط في استفزازه للعقل بكيفية طرحه للأسئلة، وكذلك أفلاطون أبدع في تحديد فضائله الأربعة ( الحكمة والشجاعة والعدل والعفة)، لبناء مدينته الفاضلة مبتكرا تصورا مثاليا، وفي السياق عينه، نجد تلميذه أرسطو الذي نهج منهج أستاذه أفلاطون في إبداع منطق فكري أحدث ثورة في العقل البشري.
وعليه، يمكن القول إن مفهوم الإبداع في اللحظة الهلينية إبداع فكري محض تمخض في وحل المنطق والبحث عن ماهية وجود الإنسان اليوناني.
على هذا النحو، تدحرج مفهوم الإبداع إلى الحضارة السريانية وذلك من خلال إبداعهم في ترجمة الإرث اليوناني وضمه إلى حضارتهم، ولعل حنين بن اسحق من أبرز المترجمين في هذا الصدد، وكذلك قسطا بن لوقة الذي لعب دورا كبيرا في نقل التراث اليوناني إلى الحضارة العربية. وضمن هذا السياق، يتبين أن مفهوم الإبداع في الحضارة السريانية أضفى عليه صبغة الترجمة، فأصبح الإبداع في الترجمة واجهتهم في تلك الفترة. أما الحضارة العربية فلم تختلف في مفهومها للإبداع عن الحضارتين السابقتين بقدر ما أضفت على هذا المفهوم ملح العروبة بأشعارها المنافحة عن ذاتها وجماعتها وحِكمها النفيسة التي عدَّها طه عبد الرحمن في كتابه “فقه الفلسفة والترجمة” فلفسة إسلامية محضة.
تأسيسا على الآنف، يمكن القول إن مفهوم الإبداع رجراج هلامي ينظر إلى الأشياء المألوفة بطريقة غير مألوفة. إذ يتكون من ذات المبدع و المتلقي لهذه الذات، فلا يمكن أن نتصور إبداعا دون تحديد المتلقي المخصوص حتى لا يبقى المبدع أسير إبداعه. وهذا ما أكده جون بول سارتر في كتابه “ما الأدب ” مما حقق تفاعلا بين النص والمتلقي، أو ما يسمى بالتأويل المتسق كما ورد في كتاب ڤولڤݣان إيزر الموسوم ب “فعل القراء” بقوله «التأويل المتسق أو الجشطالت هو حصيلة التفاعل بين النص والقارئ» ونتيجة لذلك، فلا يمكننا تحديد مفهوم الإبداع في حلٍّ عن استحضار المتلقي الذي قد يسفر عنه إبداع آخر وهو “النقد”، الذي لا يبتعد كثيرا عن المفهوم الأول بل يجاوره، وإن تأملنا سيرورته الزمنية فلن نجد إلا إبداعا يتزي بلباس آخر، يحاول أن يرتوي من الإبداع الأول لينتج لنا إبداعا نحسن من خلاله التجربة الأدبية ونطورها (النقد ).
وضمن مستوى آخر، هناك من يخالف هذا الطرح تجاه النقد، حيث يرى بأنه أسهم في خنق الإبداع ومحقه، وذلك بأن عمد إلى تحبير أدبيات الإبداع وعدم السماح بخرق الإجماع النقدي حولها، الأمر الذي عقل الإرادات وعقد الألسنة على ما استشعره بعضهم من وجود محاولات التجديد منذ عصر الجاحظ إلى الآن، ومن هنا، نفهم سطوة النقد على الإبداع الأدبي في تجميد حركيته وفرض سلطته النقدية، وبهذا الفهم يمكن التسليم بأن الإبداع الأدبي إما أن يكون النقد فاعلا فيه بتحريكه إلى استشراف المستقبل أو تجميده، وهناك طرح ثالث ذهب إلى أن النقد أعم من أن نحصره في الأدب إذ يشمل الإنسان بتلقيه وإنتاجاته الحياتية المختلفة كما قال ماثيو أرنولد النقد حياة نحيا به.
يمكن القول بوجازة في ختام الذي تقدم، إن الإقرار بوجود الإبداع والنقد أمر لا يلحقه ارتياب نظرا لاشتغالهما في إطار النص الأدبي إبداعا ونقدا، إذ يبدأ علم النقد حيث ينتهي الإبداع.
إن الواقع يحتم علينا ضرورة تنمية الإبداع والنقد تماشيا مع متطلبات العصر وما تفرضه العولمة من تحولات على الإبداع عموما، وإن كانت العولمة في حد ذاتها إبداع إلا أنها فرضت سلطتها التنموية على مختلف الإبداعات الأخرى، وعلى رأسها ما نحن بصدده من زمرة من التراكمات الإبداعية، إذ يتغيى على المبدع في سياقنا الرقمي أن يكيف إنتاجاته مع المستجدات الرقمية، وأن لا ينحصر بذاته بعيدا عن التحولات الراهنة، من خلال تسليط الضوء على القضايا الرقمية وفي نفس الوقت أن يرقم في ضمير المتلقي أن الإبداع يولد من صلب الذات الإنسانية ويُوَجه إليه، وإن اعتمدنا فيه على الذكاء الاصطناعي في ابتكار إبداع اصطناعي فلن يسد حاجات المتلقي بقدر ما سيولد فيه نوعا من الخمول والعجز في الإبداع وممارسة النقد.
ويشي هذا بما ينبغي أن يجمع بين الإبداع وتحدياته سبيلا لابتكار أفقا يوائم بينهم استشرافا إلى إبداع خلاَّقٍ ينتسب المبدع من خلاله إلى أرومة الإبداع، فحين يستفرغ المبدع تجربته في سياق يأتلف فيه الإبداع وتحدياته، يحرص على أن يكون إبداعه موافقا لمتطلبات المتلقي ومسايرا لما يعيشه من مستجدات فكرية وأدبية، وعلى سبيل المثال نذكر طه عبد الرحمان الذي أبدع لنا حداثة إسلامية استنادا إلى تطورات العصر الراهنة وعلى رأسها التكنولوجيا وآثرها على أخلاق الإنسان وكيفية تجاوز ثغراتها المتضاربة مع العقيدة الإسلامية…، فهذا إبداع يتماشى مع ما يحتاجه الإنسان العربي الحديث.
ختاما، حاول هذا المقال تسليط الضوء على الإبداع والنقد باعتبارهما قضيتين أدبيتين شغلا معظم الباحثين وعلى رأسهم محمد مفتاح، إذ من خلال كتابه المشار إليه في المقدمة فككنا مفهومي الإبداع والنقد انفتاحا على الرقمنة الجديدة لإبراز التحولات ومسايرتها جانحين لإبداع فعال في الحياة الإنسانية.