في ظل التحولات السياسية والاجتماعية المتسارعة في العالم العربي، تبرز الشعبوية كظاهرة محورية تحتاج إلى تحليل معمق لفهم جذورها وتداعياتها، فالكاتب المغربي حسن أوريد في كتابه “إغراء الشعبوية في العالم العربي: الاستعباد الطوعي الجديد” يقدم رؤية شاملة لهذه الظاهرة، مسلطاً الضوء على الأبعاد المختلفة التي تشكلت فيها الشعبوية وتأثيراتها على المجتمعات العربية.
يعالج أوريد مسألة استنفاد السرديات الكبرى التي شكلت الفكر السياسي العربي لعقود، حيث تراجعت القومية العربية، التي حملت طموحات الوحدة والتضامن بين الدول العربية، أمام تعقيدات الواقع السياسي والاقتصادي.
أفسح هذا التراجع المجال لصعود الإسلام السياسي كبديل، ولكن هذا الأخير بدوره اصطدم بمعيقات متعددة جعلته غير قادر على تحقيق التغيير المنشود، هذه السرديات، سواء القومية أو الإسلامية، لم تتمكن من تقديم الحلول الفعالة للتحديات المعاصرة، ما أدى إلى فراغ أيديولوجي عميق .
في ظل هذا الفراغ، ظهرت الشعبوية كبديل جذاب يملأ هذا الفراغ بمزيج من الوعود السهلة والشعارات البراقة، تقدم الشعبوية نفسها كحركة تمثل “صوت الشعب” في مواجهة النخب السياسية والاقتصادية المتحكمة، مستخدمة لغة بسيطة ومباشرة تستهدف الجماهير الواسعة، إلا أن أوريد يبين بوضوح أن هذا القبول الواسع للشعبوية ليس سوى نوع من الاستعباد الطوعي، حيث تقود الشعبوية الناس نحو أنظمة سلطوية تتخفى بلبوس شعبي .
يقدم أوريد تحليلاً عميقاً للواقع السياسي والاجتماعي في الدول العربية، موضحاً كيف وقعت العديد من المجتمعات في فخ الشعبوية، مشيرا إلى أن هذه المجتمعات، التي تعاني من مشاكل سياسية واقتصادية عميقة، تجد في الشعبوية حلاً سحرياً لمشاكلها، ولكن الواقع يظهر أن الشعبوية لا تقدم حلولاً حقيقية، بل تزيد من تعقيد المشهد السياسي وتجعل من الصعب تحقيق أي تقدم ملموس .
تلجأ الشعوب إلى الشعبوية، إذ غالباً ما تجد نفسها في نهاية المطاف تحت حكم استبدادي، حيث يتم قمع الحريات وتقييد الحقوق باسم تحقيق إرادة الشعب .
يتناول أوريد بشكل خاص العلاقة بين الشعبوية والاقتصاد، يوضح كيف أن الأزمات الاقتصادية تلعب دوراً كبيراً في تعزيز الشعبوية، حيث في ظل البطالة والفقر والتضخم، تجد الشعوب في الوعود الشعبوية بديلاً مغرياً لحلول واقعية ومعقدة، الشعبوية تعد بتحقيق الرخاء الاقتصادي بسرعة وبطرق بسيطة، ولكنها غالباً ما تفشل في الوفاء بهذه الوعود، مما يؤدي إلى مزيد من الاستياء والتوترات الاجتماعية .
يشير الكاتب إلى دور الإعلام الجديد والتكنولوجيا في تعزيز الشعبوية، وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت ساحة رئيسية لنشر الأفكار الشعبوية وتجنيد المؤيدين، هذه المنصات تمكن الشعبويين من التواصل المباشر مع الجماهير، مما يعزز من قدرتهم على التأثير والسيطرة، إلا أن هذا التأثير غالباً ما يكون سطحياً وغير دقيق، حيث يعتمد على الإثارة والشعارات الجوفاء بدلاً من تقديم حلول حقيقية للمشكلات القائمة .
يقارن أوريد بين حالة العالم العربي ودول أخرى مثل الصين والهند، التي تمكنت من تحقيق تقدم ملحوظ بعد أن تحررت من الاستعباد والاستبداد، ثم يوضح كيف أن هذه الدول استفادت من تجربتها التاريخية في التحرر وبناء أنظمة سياسية واقتصادية قوية، مما جعلها قادرة على مواجهة التحديات وتحقيق التنمية، بالمقابل لا يزال العالم العربي عالقاً في دوامة الشعبوية والاستبداد، غير قادر على تحقيق أي تقدم ملموس .
من خلال استعراض تجارب دول أخرى، يقدم أوريد أمثلة على كيفية التغلب على الشعبوية وبناء نظم سياسية أكثر استقراراً وعدالة، حيث يشير إلى أن العديد من الدول التي عانت من الشعبوية تمكنت من تجاوز هذه الظاهرة من خلال تعزيز الديمقراطية وبناء مؤسسات قوية ومستقلة، هذه التجارب يمكن أن تكون نموذجاً يحتذى به للعالم العربي في سعيه لتحقيق الاستقرار والتنمية .
الكتاب لا يكتفي بالتحليل والتشخيص، بل يقدم رؤية لمستقبل العالم العربي . يؤكد أوريد على الحاجة الملحة لإعادة بناء السرديات الكبرى التي يمكن أن تلهم الناس وتدفعهم نحو التغيير الإيجابي، هذه السرديات يجب أن تكون مبنية على أسس ديمقراطية حقيقية، تحترم حقوق الإنسان وتعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية واحترام الحقوق، بدون هذه السرديات، سيظل العالم العربي عالقاً في حلقة مفرغة من الاستبداد والشعبوية، غير قادر على تحقيق أي تقدم حقيقي .
يستعرض أوريد في هذا السياق التحولات التي شهدها العالم العربي منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، مع تركيز خاص على فترة “الربيع العربي”. يرى الكاتب أن الانتفاضات الشعبية التي اجتاحت المنطقة كانت تعبيراً عن رغبة الشعوب في التغيير والخروج من دائرة القمع والاستبداد، ولكن هذه الانتفاضات لم تتمكن من تحقيق أهدافها، بل أدت في كثير من الحالات إلى تدهور الأوضاع وزيادة الفوضى، مما مهد الطريق لظهور الشعبوية كبديل جديد ومغرٍ.
الكتاب يقدم أيضاً نظرة على كيفية مواجهة الشعبوية وبناء مستقبل أفضل للعالم العربي . يركز أوريد على أهمية التعليم والتثقيف السياسي كوسيلة لمواجهة الشعبوية، يرى أن توعية الناس بحقوقهم وواجباتهم ودورهم في العملية الديمقراطية يمكن أن يساعد في بناء مجتمع أكثر وعياً وقدرة على التصدي للتحديات، كما يشدد على ضرورة بناء مؤسسات ديمقراطية قوية قادرة على حماية حقوق الأفراد وتقديم حلول حقيقية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية .
من خلال تحليل تجارب دول أخرى، يقدم أوريد أمثلة على كيفية التغلب على الشعبوية وبناء نظم سياسية أكثر استقراراً وعدالة، يشير إلى أن العديد من الدول التي عانت من الشعبوية تمكنت من تجاوز هذه الظاهرة من خلال تعزيز الديمقراطية وبناء مؤسسات قوية ومستقلة . هذه التجارب يمكن أن تكون نموذجاً يحتذى به للعالم العربي في سعيه لتحقيق الاستقرار والتنمية .
في ختام الكتاب، يؤكد أوريد على ضرورة التفكير في المستقبل بروح من التفاؤل والعمل الجاد، ويشدد على أن الشعبوية ليست حتمية، وأن الشعوب العربية قادرة على بناء مستقبل أفضل، إذا تمكنت من تجاوز الانقسامات الداخلية والعمل معاً لتحقيق أهداف مشتركة، ويدعو إلى ضرورة التعاون بين مختلف الفئات السياسية والاجتماعية من أجل بناء نظام سياسي يقوم على العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان .
في نهاية المقال، لا بد من الثناء على التحليل الذي قدمه حسن أوريد في كتابه، حيث استطاع أن يقدم رؤية متكاملة وشاملة لظاهرة الشعبوية في العالم العربي، مسلطاً الضوء على الأسباب والتداعيات والحلول الممكنة، لأن تحليله يعتمد على فهم عميق للتاريخ والسياسة والاقتصاد، ويقدم خارطة طريق واضحة لمستقبل أفضل، حيث تجعل قدرة أوريد على الجمع بين التحليل النظري والتطبيق العملي من كتابه إسهاماً هاماً في الفكر السياسي العربي المعاصر، ويستحق الدراسة والاهتمام من قبل كل من يسعى لفهم التحديات التي تواجه العالم العربي اليوم .