بقلم عائشة بوزرار*
رؤية أخرى للتوحش الرقمي في علاقته بالسياسة والاقتصاد والثقافة، يكتب حولها مارك دوغان، وكريستوف لابي، في كتابهما المشترك (الإنسان العاري: الدكتاتورية الخفية للرقمية) ترجمة الناقد والمترجم سعيد بنكراد.
فقد شهدت الولايات المتحدة الامريكية تطورات أمنية، بعد هجمات 11 سبتمبر أثرت بشكل كبير على حياة المواطنين الأمريكيين اليومية، فزادت إجراءات المراقبة والتفتيش أثناء السفر واستخدام الاتصالات والإنترنت، مما خلق جواً من القلق والحذر تجاه الإرهاب. كما تعززت مخاوف العديد من الأمريكيين من أصول عربية وإسلامية من التمييز.
في الوقت نفسه، برزت مخاوف جديدة تتعلق بحماية الحقوق المدنية والخصوصية في ظل السياسات والتدابير الأمنية الأكثر قمعًا. وبشكل عام أصبح الأمن والحريات محور النقاش العام في المجتمع الأمريكي.
تعتمد داعش بشكل كبير على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في نشر دعايتها وأيديولوجيتها، أكثر بكثير مما كان عليه الحال مع تنظيم القاعدة، فقد مكّنت شبكات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، داعش من نشر مقاطع الفيديو والخطابات التحريضية بين ملايين المتابعين في شتى أنحاء العالم .
ويعتبر الفرنسي عمر ديابي واحدا من أبرز دعاة داعش على الإنترنت، والذي اشتهر بإنتاج مقاطع فيديو بهدف جذب المزيد من المقاتلين الغربيين.
كما يمكن القول بأن اعتماد داعش الكبير على وسائل التواصل الاجتماعي هو ما مكّنها من نشر تبليغاتها واستقطاب أعداد كبيرة من أنصارها حول العالم كما نجحت شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى مثل غوغل وأبل وفيسبوك في احتلال مركز قيادي في قطاع تقنية المعلومات عالمياً.
وقد ساهم نجاح هذه الشركات -التي تُسمى أحياناً “قارة سيليكون” – في تعزيز النفوذ الاقتصادي والاستراتيجي للولايات المتحدة، تاريخياً، عملت واشنطن على ربط مصالحها الاقتصادية بالمصالح البترولية من خلال عمليات عسكرية في بلدان مثل بنما ونيكاراغوا، وفي الوقت الحاضر، أصبحت مصالح واشنطن التكنولوجية والاقتصادية متداخلة بشكل متزايد مع نجاح شركاتها العملاقة في قطاع تقنية المعلومات، مما يعزز من هيمنتها الرقمية على العالم.
يمكن أن تؤدي البيانات الضخمة إلى تغيرات كبيرة في كيفية تسيير الحكومات والمجتمعات، ولكن المستقبل ليس محدداً بعد، فالبيانات الضخمة قد تمكِّن من مراقبة المواطنين واتخاذ قرارات سياسية أكثر تكيفاً وفاعلية، لكن ذلك قد يهدد أيضاً الخصوصية والديمقراطية ،كما قد تنمو الفجوات الاجتماعية، إذا سمح لمجموعات محدودة بالسيطرة على البيانات واستغلالها لمصالحها، بينما يمكن الاستفادة منها لتعزيز الشفافية ومشاركة المواطنين، وبالنسبة للحدود الوطنية والسيادة، فإن تداول البيانات بين القارات دون رقابة قد يضعف سلطة الدول. لكن الدول قادرة أيضاً على استغلال البيانات لخدمة مواطنيها.
لذا فإن المستقبل مرهون بقدرة المجتمعات على إيجاد توازن بين فوائد التقدم التكنولوجي وحماية حقوق الإنسان والديمقراطية.
هناك مخاوف من أن اعتماد المجتمع على العوالم الافتراضية قد يؤدي إلى تقليص أهمية العلاقات الواقعية.
فعلى سبيل المثال، يمكن أن تتعرض العلاقات الرومانسية التي تقتصر فقط على التواصل عبر الإنترنت للمساءلة القانونية مثل تهمة الزنا، كما أن فصل الأشخاص عن الواقع من خلال استخدام تقنيات الواقع الافتراضي بشكل متزايد قد يؤدي إلى فقدان القدرة على التمييز بين العالم الحقيقي والافتراضي، ويجب أن تستخدم هذه التقنيات بحكمة لتعزيز العلاقات دون إضعاف أهمية التواصل.
هناك طرق أخرى لوصف علاقتنا بوسائل التواصل الاجتماعي بدون التركيز على السلبيات فقط، فهي أدوات قيمة للتواصل والتفاعل، لكن علينا أن نستخدمها بطريقة مسؤولة وواعية. وعكس التحكم الكامل، يمكننا اختيار ما نريد مشاركته وكيف نريد أن يرانا الآخرون، وعوض التبسيط المفرط، يمكن تقديم صورة متوازنة عن أفكارنا وتجاربنا.
وبدلاً من رؤية اللوغاريتمات على أنها تقييد لهويتنا، يمكن اعتبارها فرصة للوصول إلى جمهور أوسع والمشاركة في مجتمعات جديدة، ولا يجب أن تحدد وسائل التواصل الاجتماعي مدى إنسانيتنا أو هويتنا، فهي مجرد أدوات يمكن استخدامها بذكاء أو بطريقة غير منتجة.
الاختيار لنا دائما، سيكون لدى وكالات الاستخبارات وتحليل البيانات مستقبلاً مشتركاً يمكن أن يشكلا تحالفاً قوياً في هذا القرن في مجال جمع ومعالجة المعلومات على المستوى العالمي، ما يعني دمج أقوى أجهزة الدولة الأمريكية. لا شك في أن أهمية الاستخبارات في تاريخ الديمقراطية الأمريكية واضحة في هذا المجال.
تشير الدراسة إلى أن بعض العلماء يثقون كثيرًا بنتائج البحث على الإنترنت، بينما يتوجسون من تقارير وتعليقات وسائل الإعلام التقليدية. واستنتج الباحثان أن هذا قد يشكل تهديدًا للديمقراطية إذا أصبحت نتائج البحث على الإنترنت هي المعيار الوحيد للرأي العام. وسبق أن تبنى رئيس دولة ديمقراطية نظام التسويق عبر الإنترنت.
أشار الكاتب أيضا إلى قضية إدوارد سنودن وجوليان أسانج وبرادلي، الذين كشفوا أسرار الحكومة الأمريكية التي أثارت جدلاً واسعاً حول توازن حقوق الأفراد بالخصوصية وحرية التعبير من جهة، والأمن القومي من جهة أخرى، حيث كشف إدوارد سنودن عن برامج المراقبة الضخمة لوكالة الأمن القومي الأمريكية مما أدى به إلى المنفى، في حين سرّب جوليان أسانج وبرادلي مانينغ ألآف الوثائق السرية لوزارة الخارجية والدفاع الأمريكيتين الأمر الذي أدانهما بتهمة الخيانة وحكم على مانينغ بالسجن 30 عاما.
هناك بالفعل العديد من المخاوف حول الخصوصية على الإنترنت والطرق التي تتبعها الشركات الرقمية الكبرى لجمع البيانات الشخصية للمستخدمين دون موافقتهم. وهذا ما جعل ظهور تقنيات مثل الإنترنت العميق والشبكات الخفية، أمرًا ذا أهمية كبيرة.
يجب إعادة جعل المواطن في مركز الاهتمام مجددًا. ويمكن تحقيق ذلك من خلال الحصول على فترات من التوقف عن العمل وقطع الاتصال عن العالم الخارجي للتأمل في ذواتنا وتحديد من نحن بالفعل، كما فعل أوديسيوس عندما عاد إلى مسقط رأسه ايثاكا ليضع حدًا لرحلته الطويلة. فتلك الفترة من التوقف والانعزال هي التي مكّنته من استعادة هويته وذاته.
وبالمثل، يجب علينا أن نتحرر من سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي وأدوات الاتصال الرقمية التي تلصقنا بشاشاتها وجدرانها الافتراضية. وليس ذلك فحسب، بل يجب أن نتحرر أيضًا من ديكتاتورية الأعمال الكبرى وسياساتها التي تركز على الأرباح على حساب المواطن.
*باحثة في الإعلام الجديد والتسويق الرقمي