بقلم أمكار عصام
الوثائق التاريخية ليست مجرد سجلات للماضي، بل هي شواهد حية على حقائق راسخة ترسم ملامح الحاضر وتحدد أفق المستقبل. في هذا السياق، تبرز أهمية الوثائق الفرنسية المتعلقة بالفترة الاستعمارية، التي توثق جوانب مختلفة من تاريخ المغرب وعلاقته بصحرائه الشرقية والغربية، هذه الوثائق المحفوظة في الأرشيف الفرنسي تشكل أحد الأدلة القاطعة على مغربية الصحراء، وهي وثائق تعهدت فرنسا بإعادتها إلى المغرب في إطار التزاماتها السياسية والأخلاقية تجاه إعادة الأرشيف الاستعماري إلى أصحابه الشرعيين .
إن استعادة هذا الأرشيف مسألة بالغة الأهمية، خصوصًا أن الوثائق الفرنسية تضم معاهدات، مراسلات، وتقارير تفصّل السياسات الاستعمارية التي هدفت إلى خلق قطيعة بين المناطق المغربية، ومن الملاحظ أن القطيعة التي فرضها الاستعمار الفرنسي على الصحراء الشرقية كانت أكثر حدة من تلك التي فرضها الاستعمار الإسباني على الصحراء الغربية، رغم أن الصحراء الشرقية حافظت على مستوى أكبر من التواصل مع الجهات المغربية، هذه الحقائق التاريخية، المدونة في الوثائق الفرنسية، تؤكد أن الصحراء الشرقية كانت جزءًا لا يتجزأ من المغرب، سواء على المستوى الجغرافي أو البشري، وهو ما لم تستطع السياسات الاستعمارية محوه تمامًا .
ورغم أهمية هذه الوثائق، فإن الدبلوماسية المغربية لم تعطها حقها من الاهتمام، لقد ظلت الدبلوماسية المغربية بعيدة عن استثمار جهود المؤرخين والخبراء الذين يمكنهم تفكيك محتوى هذه الوثائق وتوظيفها في بناء سردية قوية تخدم القضية الوطنية، لأن البيروقراطية الموروثة والروتين التقليدي كانا عقبة أمام تحويل هذه الأدلة التاريخية إلى أدوات دبلوماسية فعّالة، في وقت اعتمدت فيه الجزائر على الدعاية المستمرة لإخفاء الحقائق .
ومن بين هذه الحقائق المهمة، دور مدينة تيندوف، التي تشكل حلقة وصل تاريخية بين الصحراء الشرقية والغربية، لقد دفعت هذه الحقيقة النظام الجزائري إلى نقل مخيمات البوليساريو إلى الحمادة، محاولاً بذلك تقليل الأهمية الرمزية والجغرافية لتيندوف وعلاقتها بالمغرب، الوثائق الفرنسية تؤكد هذه الروابط وتبرز كيف أن تيندوف كانت على الدوام جزءًا من نسيج الحياة المغربية، وهو ما يعزز حقوق المغرب التاريخية والسياسية في هذه المناطق .
مع ذلك، لا نتحدث هنا عن استرجاع الصحراء الشرقية، بل عن جعل الروابط السابقة لهذه الصحراء، التي هي جزائرية الآن، أساسًا لأي توافق بين المغرب والجزائر، وأساسًا للتوجه إلى مستقبل مشترك.
ليس بسبب اتفاقية سابقة، بل بإرادة حرة من طرف المغرب شعبًا وقيادة، هذه الرؤية لا تلغي التضحيات التي قدمها المغرب سابقًا، مثل توقيعه اتفاقية مدريد التي بموجبها تم ضم وادي الذهب إلى موريتانيا، وهي خطوة أظهرت مرونة المغرب في سبيل تحقيق الاستقرار الإقليمي، وفي كل الأحوال على الجزائر أن تدرك أن المغرب ضحى كثيرًا من أجل حسن الجوار، ويقدس قيم التعاون الإقليمي والمصير المشترك .
إن استعادة الأرشيف الفرنسي تمثل فرصة كبيرة لتفكيك الطموحات الجزائرية، خصوصًا ما يتعلق بمحاولتها الحصول على منفذ على المحيط الأطلسي، الطموح الجزائري الذي يستند إلى دعاوى زائفة يواجه مخاطره الداخلية؛ إذ إن أي استفادة للصحراء الشرقية من مثل هذه المشاريع ستكون في صالح تعزيز علاقتها بالمغرب، الذي تربطها به روابط تاريخية واقتصادية أعمق من تلك التي يمكن أن تقدمها الجزائر .
لا يمكن تجاهل أن الخريطة السياسية الجزائرية ملغومة بتحديات داخلية كبيرة، النظام الجزائري، الذي اختار دعم الانفصال منذ البداية، وجد نفسه محاصرًا بمأزق استراتيجي ، الانفصال الذي دعمه بات يهدده على المدى البعيد، وأي تراجع عن هذه السياسة يستلزم تغييرات جذرية في بنية النظام الجزائري ذاته، وهنا تكمن أهمية الوثائق الفرنسية التي تكشف حجم التناقضات في السياسة الجزائرية وتبرز كيف أن الاستمرار في دعم الانفصال يعمّق عزلة الجزائر ويهدد استقرارها .
إلى جانب ذلك، فإن الوثائق الفرنسية تمثل وسيلة لفهم كيف استغلت الجزائر ضعف الاهتمام المغربي بالمجتمع المدني الجزائري، هذا المجتمع الذي يعاني من القيود والضغوط، يمكن أن يكون شريكًا مهمًا للمغرب في مواجهة المشاريع الانفصالية التي تهدد الجزائر نفسها قبل أن تهدد المغرب .
إن الوثائق الفرنسية ليست مجرد صفحات مطوية في الأرشيف، بل هي أدوات استراتيجية يمكن أن تُستخدم لتعزيز الموقف المغربي وإعادة بناء سردية قوية تستند إلى حقائق تاريخية مدعومة بالشواهد الموثقة، إنشاء مركز دراسات متخصص في تحليل هذه الوثائق وجعلها متاحة للباحثين، بالإضافة إلى إحداث شعبة جامعية تعنى بتاريخ الصحراء الشرقية وإنتاجاتها الأدبية والفنية، يشكل خطوة حيوية نحو استثمار هذا الأرشيف بما يخدم المصالح الوطنية المغربية ويعزز فهم مواطني الصحراء الشرقية لعمق ارتباطهم التاريخي بالمغرب .
إن فرنسا التي تعهدت بإعادة هذا الأرشيف، تتحمل مسؤولية كبيرة تجاه إنصاف التاريخ وإعادة الحقوق المعرفية لأصحابها، وعلى المغرب أن يواجه هذا الاستحقاق بخطة واضحة تعتمد على توظيف الوثائق كأداة للبحث والدبلوماسية بما يضمن تعزيز حضوره الإقليمي والدولي وإثبات حقوقه التاريخية بلا مجال للشك .