المقال المغربي
صدر حديثا كتاب “السيرورات المعرفية وبناء المعنى في خطاب التفسير القرآني: الانتباه-الإدراك -الذاكرة (تفسير الكشاف للزمخشري أنموذجا)” للدكتور والمؤطر التربوي محمد بريم عن دار كنوز المعرفة بالأردن 2024م، يتكون من 725صفحة، يضم بين دفتيه مقدمة ومدخلا ثم أربعة فصول، خصص الفصل الأول لدراسة الخطاب العتبتي في “الكشاف” دراسة ميتامعرفية، التقط فيها الباحث إشارات مهمة في المقدمة حول شروط المفسر كما حددها الزمخشري؛ منها كونه “منتبها للرمزة” و”دراكا للمحة” و”حافظا مراجعا”، بناء على ذلك، انبرت الفصول الثلاثة الأخرى لاشتغال السيرورات الانتباهية والإدراكية والذاكرية في بناء المعنى المتصور، ثم خاتمة الكتاب، وأخيرا عرض الباحث ثبتا بقائمة المصطلحات الغربية الموظفة ومقابلاتها العربية.
ويندرج هذا الكتاب ضمن إبدال تصوري جديد يروم تتبع سيرورة بناء المعنى في خطاب التفسير القرآني، وهي سيرورة تتم في النظام الذهني الذي يفرض على الدخول اللغوية inputs تنظيمات إدراكية مقولية ليتحقق الفهم والإفهام، وقد اتسمت هذه المناولة بالجدة والفرادة والاقتحام العلمي المؤسس على العلوم المعرفية وعلوم الذهن دونما إسقاط أو فرض ما لا يحتمله المتن المشتغل عليه.
وقد انطلقت الدراسة من مقدمات مؤسسة منها اعتبار المعنى موضوعا بنائيا وليس معطى جاهزا، كما أن بناء المعنى هو بناء التصور Conceptualization، فالمعنى هو ما نتصوره داخل أذهاننا، هذا ما جعل اللغة العلمية الواصفة للكتاب لغة تمتح من علوم الذهن والنظريات المعرفية عموما.
وقد انبري الكتاب لدراسة متن “الكشاف”، دراسة استجلت مختلف السيرورات المعرفية المتحكمة في بناء المعنى الذهني، فالانتباه هو بوابة المعرفية Gate of Cognition، إذ يتوجه انتباه الزمخشري إلى البنيات البارزة بروزا كيفيا أو كميا، ثم يجري عليها عمليات انتباهية منجزة كالتبئير الانتباهي والانتقاء الانتباهي والانتباه المدمج والمسح البصري الانتباهي …
أما السيرورة الإدراكية فدرست الإسقاطات الخرائطية mapping في الدرجة الصفر أو غير المجازية، ثم الإسقاطات التجاورية والإسقاطات الإستعارية الاتجاهية والأنطولوجية والبنيوية، أما السيرورة الذاكرة فقد رصدت اشتغال النماذج الذاكرية في سيرورة الترميز كالترميز السياقي والترميز المبني على استراتيجية التجميع والترميز السلمي والترميز الفضائي… وسيرورة الاسترجاع كالاسترجاع الاستدلالي والاسترجاع الجيهي والاسترجاع المنتشر…وصولا إلى أن السيرورتين الترميزية والاسترجاعية تتفاوضان فيما بيتهما لأجل إخراج نهائي للمعنى.
ونجح هذا الإنتاج العلمي الفريد في تأسيس إبدال معرفي مهم، كونه ينقل النظريات المعرفية بجهازها المفهومي وترسانتها المصطلحية الغنية إلى رحابة خطاب التفسير القرآني، نقلا احترازيا يروم تحقيق الفعالية والإنتاجية دون إسقاط، ونأمل أن يطور الباحث زاوية النظر هذه لتشمل خطابات أخرى كالخطاب الشعري والخطاب السردي وخطاب الصورة…وفقه الله لكل خير.