د- سعيد يقطين -كاتب وناقد مغربي
قدمت مداخلة في أحد مؤتمرات نادي جدة، منذ عدة سنوات، فانبرى لمناقشتي صديقي عبد الله إبراهيم.
حكى لي أحد الحاضرين أننا كنا نتوهم أن ردك عليه سيغير الروح الودية التي هيمنت على المؤتمر، وتنفسنا الصعداء بعد انتهاء ردك. كان جوابي بعد الشكر أني لا أرد على مداخلته، لأن خلفية كل واحد منا مختلفة عن الآخر. ولو انطلق من خلفيتي وناقشني كنا سندخل في حوار.
هذا ما وجدتني فيه تماما بعض الاطلاع على رد هناوي على مقالتي في «القدس العربي» تحت عنوان: «لماذا الأقلمة السردية الآن؟». إن لاختلاف المنطلقات بيننا في الخلفية المعرفية، وفي فهم المصطلحات أثرا في استحالة الحوار أو النقاش.
سبق لي أن ناقشت مفهومها للأقلمة في لقاء عن بعد. وحين تعود إليه موضحة: «إن سياقية مفهوم الأقلمة، لا بد من أن تتوزع بين التجاور الجغرافي في الفاعلية السردية، والانتفاع المعرفي في الفاعلية النقدية» لم أفهم التجاور ولا الانتفاع! أنا أدافع عن المشاركة في النظرية العالمية، ونود المساهمة في المشروع البحثي الإنساني، ودون ذلك فهم ما ينتجه الآخرون جيدا، ومناقشته علميا، واقتراح تصورات دقيقة في النظر والعمل، وكانت مقالتي حول «السرديات الروسية» مثالا لطريقة عمل.
كيف تتحدث عن «الأقلمة» وتقول: «إن من الحري بنا أيضاً أن نؤشر على اجتهاداتنا في الدرس السردي بعيداً عن تحيزنا لكلاسيكيه أو لما بعد كلاسيكيه؛ كي لا نجلد أنفسنا مجحفين حقها، متجاهلين ما لها ومتذكرين ما عليها، وما دمنا غير منصفين لأنفسنا فكيف بعد ذلك نتوقع من الآخر إنصافنا، فنسعى إلى علمنة أدبنا وأقلمة نظرية عربية خاصة بنا؟!».
لا أفهم معنى «التحيز» ولا «علمنة أدبنا» ولا «أقلمة نظرية عربية خاصة بنا».
لا بد لاجتهاداتنا أن تتحيز، وأن تتخذ لها «موقفا» و«موقعا» ضمن ما ينتج. قمت بهذا منذ بدايات الثمانينيات بإعلان انتمائي إلى السرديات، وكل أعمالي جاءت إلى الآن متساوقة مع التطورات التي تحققت مع السرديات ما بعد الكلاسيكية. ولذلك حين أناقش السرديين ما بعد الكلاسيكيين في أمريكا وغيرها، أمارس ذلك بمعرفة دقيقة بالمطبخ السردي. في مقدمة الكلام والخبر سنة (1997) وهي السنة التي يؤرخون بها للسرديات ما بعد الكلاسيكية، وضعت مخططا لتطوير «السرديات العربية» من خلال مقترحات يبدو لي الكثير منها متداولا الآن في بعض الكتابات الأجنبية؟ فمن قام بـ«أقلمة» هذه «النظرية العربية» من المهتمين بالسرد العربي؟
حين انحزت إلى المدرسة الفرنسية كان ذلك عن وعي لأنها كانت مؤسِّسة لعلم جديد، وكنت أرى، وما أزال، أنه دون انخراطنا أدبيا، في العلم سنظل نقادا لا يميزون بين الشعر والشِّعرى. إنها هي التي أعطت للسرد القيمة التي صارت له عالميا. ولولاها لما كان للسرديات ما بعد الكلاسيكية وجود، لأنها تشكلت على أساسها.
أما قول الباحثة بأن السرديات الفرنسية «لو كانت بلا ثغرات ونقائص لما نفذ منظرو المدرسة الأنكلو أمريكية من خلالها، وسعوا إلى تدارك أخطائها فتخلصوا من ضغط البنية، ووسّعوا حدود التعدد في التخصصات، ووجهوا نقدهم إلى مفاهيم ملتبسة وإشكالية كوجهة النظر والراوي والمؤلف والمحاكاة والحبكة والتبئير» فكلام لا أساس له.
إن كل السرديين ما بعد الكلاسيكيين عالميا يقرون بدور هذه السرديات الكلاسيكية، وفضلها، وحتى أكثر المتحمسين ضدها يعترفون لها بالتأسيس، ويأخذون المصطلحات التي ولدتها، ويعملون على تطويرها.
إن من يطلبون من جيرار جنيت في 1972 أن يتحدث عن السرديات الرقمية، ويتناول التبئير متصلا بالوسائط الجديدة لا تاريخيون وخارج الزمن.
إن من يطور السرديات حاليا ينطلق مما هو موجود الآن من نصوص، ومعارف جديدة، والكثير من السجالات حول السرديات الكلاسيكية، عربيا، لا زمني ولا تاريخي.
إن توسيع السرديات وتطويرها كان مطلبا من لدن مؤسسي السرديات أنفسهم (جنيت، ميك بال، كينان) لسبب بسيط هو أنهم كانوا «علماء» والعلم الذي لا يتطور، ولا يتوسع مجال بحثه، ليس علما. العلم غير القابل للدحض ليس علما. إنه أيديولوجيا.. وهذا لا يمكن أن يفهمه النقد؟
لم أفهم قول هناوي: «إن وضع تاريخ للسرديات لا يعني أن المدرسة الفرنسية كلاسيكية». فما هي السرديات الكلاسيكية إذن؟ وما معنى قولها: «ولا نرى في القول بكلاسيكية المدرسة الفرنسية عيباً».
يبدو لي أن مثل هذه التعابير دالة على اختلاف جوهري بيننا في فهم الأمور. السرديات البنيوية، وخاصة «الجُنيتية» كلاسيكية بالمعنى الإيجابي للكلمة.
إن الخطاب السردي (1972) بمثابة «بويطيقا» أرسطو، ولا يمكن لأي متحدث عن السرديات أيا كان اتجاهه ألا يعود إليه، أو يوظف بعض مصطلحاته. وإذا كانت الباحثة لا ترى عيبا في «الكلاسيكية» فمقترح «ما بعد الكلاسيكية» يعطيها قيمة استثنائية. فالكلاسيكية في الغرب تعني الأصول التي لا يمكن أن يقام أي شيء إلا على أساسها.
إننا لا ندافع عن السرديات الفرنسية، فالعلم، أيا كانت جغرافيته، إما أن نساهم فيه، أوْ نتنحى. أما الأقلمة الخاصة بنا فليست سوى هروب إلى الأمام.