بقلم الكاتب اشرايكي محمد المختار
لا، ليست لمستشفى الحسن الثاني بخريبكة أية علاقة بالموضوع، أو لنقل إن الدور لم يحن عليه بعد. إنني أقصد ما كان يُعرف سابقًا بالمستشفى الخاص بعمال “م.ش.ف” بخريبكة. تلك الوحدة الاستشفائية التي سبقت زمنها، والمؤسسة التي كانت تُدار بأقصى درجات الاحترافية والمهنية، وخصوصًا بانضباط وحسٍّ عالٍ بالمسؤولية.
مستشفى كبير احتضن في زمنٍ كانت فيه الوحدات الطبية في مناطق متفرقة من البلاد تعاني من الهشاشة، مجموعة متنوعة من الأقسام. بدءًا من الطب العام، الذي لم يكن له أي صلة بما آل إليه اليوم من تردٍّ. فقد كان أطباء هذا القسم من خيرة الأطباء، مما خوّلهم معالجة حالات كانت تستدعي، آنذاك، زيارة أطباء التخصصات. أما الحديث عن طب العيون وطب الأسنان وجراحة العظام وغيرها من التخصصات، فسيأخذنا إلى عوالم خيالية إذا ما قارنّاه بالواقع المعاش اليوم.
مستشفى أخضر، نابض بالحياة، كأنه جنة، أو لنقل كحديقة صديقة للبيئة وفق قاموس اليوم. كان مرتادوه يظنون أنهم دخلوا الأراضي الفرنسية بمجرد حيازتهم دفترًا صحيًا، دون الحاجة إلى جواز سفر. إحساس يتولد فور تجاوز البوابة الكبيرة ولمح خلايا النمل البشرية، العاملة بجد ونشاط، مرتدية ثوب البياض الناصع. ممرضات وممرضون بأعداد كافية، يسهرون على تنفيذ تعليمات الطاقم الطبي في خدمة المرضى. يتراءون في أروقة منظمة ونظيفة، تنبعث منها رائحة العلاج واستعادة العافية من خلف أبواب مكاتب الأطباء.
أما اليوم، وبعد أن تحوّل الحلم الجميل إلى كابوس مخيف، وشُيِّدت على أنقاض ذلك الماضي الجميل بناية تقوم جدرانها على أسس الكذب والوهم. سرابٌ خُيّل للعمال ولساكنة المدينة أنه الخلاص والملاذ الآمن. لكن، وبعد خيبة أمل كبيرة، اكتُشف أنه مجرد خسارة جديدة أُضيفت إلى خسائر كانت تُعد من المكتسبات والمسلّمات.
ولن أبالغ إن قلت إن الداخل إلى هذه البناية مفقود، والخارج منها مولود. هذا إن سُمح له بالخروج أصلًا، فقط لأن العجز في التعاطي مع بعض الحالات -التي تُحوّل إلى أَسِرّة المبيت، وفي كثير من الأحيان إلى العناية المركزة أو الإنعاش، لا لشيء سوى لنفخ الفواتير وحلب الجيوب- عجزٌ يبدأ من تقديم خدمة طبية ذات جودة، ثم يتفاقم إلى عجز في التشخيص أو إظهار أي تحسن ملموس في الحالة الصحية للمريض. مما يُدخل أهله في دوامة من الحيرة واليأس، ويدفعهم غالبًا إلى طلب الخروج من المستشفى بحثًا عن العلاج في مكان آخر. لكن هذا الطلب غالبًا ما يُقابل بالرفض، بحجة أن مستوى الرعاية المقدمة لا يتوفر في أي مكان آخر. وإذا ما أصرّ أهل المريض على قرارهم، فعليهم خوض أشواط طويلة من التعقيدات للحصول على ورقة الخروج أو التحويل، وغالبًا ما يتطلب الأمر الاستعانة بـ”كناش سْنِي على روحك”.
روحٌ قد تغادر الجسد إن جاء أجلها، فارّة من ذلك المكان، تاركةً له -للجسد- تبعات المعاناة المقبلة، حيث سيعيشها هذه المرة ميتًا، في رحلة البحث عن مكان لتغسيله. لأن من شيّد هذا “المستشفى” لم يضع في حسبانه احتمال وفاة المرضى، ولم يخصص ولو حجرة صغيرة تفي بالحد الأدنى من شروط تغسيل الموتى تمهيدًا لرحلتهم الأخيرة.
نعم، كل هذا وأكثر هو ما دفعني للكتابة في هذا الموضوع، والتطرّق لملف حساس طالما تغاضيت عنه لأسباب واعتبارات متعددة. لكنني اخترت الكلام اليوم، بدل الاصطفاف في طوابير الصمت، لسببين اثنين:
أولهما خوفي على ما تبقى من بياض جدران المدينة. لأنني، وبصدق، أخشى أن تستفيق خريبكة المسكينة على جداريات جديدة كُتب عليها: “لوصيبي رجع للصبيطار” أو “لوصيبي =صبيطار” أو عبارات أخرى مشابهة لإبداعات جماهير لوصيكا الوفية، غير أن أغلب كاتبيها سيكونون من العمال والمتقاعدين المقهورين.
أما السبب الثاني، فهو أعمق بكثير. يرتبط بالشيخ، وبرد فعل الشيخ، وبعلاقتنا بالشيخ… لهذا كتبت هذا المقال انطلاقًا من موقفي كمواطن يعتز بروح وطنيته وانتمائه، عسى أن يقرأه من يمكنه التدخل قبل أن يعلم الشيخ أن اسمه اقترن بهذه الكارثة الاستشفائية.