بقلم عدنان السباعي*
مقدمة:
شهد العالم ثورة كبيرة في مجال الاتصالات، والتي أثرت على مختلف المجالات، القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية، وغيرها، ولعل السبب الرئيسي لهذه الثورة يعود لظهور الإنترنت وارتباطها بالحاسبات الآلية، والتي تطورت بشكل متسارع وفي وقت وجيز بالنظر لقلة تكلفة استعمالها وسهولة وسرعة إنجاز المعاملات التي تتم من خلالها، مقارنة مع وسائل الاتصال الأخرى المعروفة، وأهم مجال تأثر بهذه التطورات التكنولوجية هو ميدان المعاملات بشتى أنواعها، مدنية كانت أو تجارية أو غيرها، وإن كانت المعاملات التجارية هي السبب الأساسي في دخول أنظمة المعلومات إلى الميدان القانوني.
والإدارة بطبيعة الحال لم تسلم من هذا التأثير، من هنا نجد أن علم الإدارة الحديث منهج الإبداع والابتكار في إحداث تغييرات جذرية في مفهوم الأداء والعمل الإداري والانتقال من الأنماط التقليدية إلى أخرى أكثر ديناميكية ومرونة بالاعتماد على التكنولوجيات والتقنيات الحديثة والتي تساعد دون شك على تعزيز قدرات المنظمات والمؤسسات الإدارية على تحقيق الجودة والتميز عبر إدخال جملة من التحسينات الأساسية على سير الأعمال الإدارية فيها.
وبما أن الإدارة العمومية في أساسها هي مجموعة من المرافق العامة فان مبدأ التكيف هو من أهم المبادئ الحاكمة لهذه المرافق، فإنه من الضروري البحث في تأسيس نظام إداري يتوافق مع روح العصر ومستجداته، سواء لجهة القيم أو لجهة الوسائل.
كما أن التحول من البيئة التقليدية الورقية إلى البيئة الالكترونية في مجال تقديم الخدمات الإدارية أصبح أمرا لا مفر منه لكل دولة ترغب في مواكبة التطورات الحاصلة في الميدان التكنولوجي، لهذا كان التحول نحو النمط الالكتروني ذو أهمية كبيرة من خلال ما توفره من مزايا وإيجابيات، وما تتجاوزه من سلبيات البيروقراطية والإدارة التقليدية.
والإدارة الإلكترونية هي ثمار للتطور التقني في العصر الحديث، كنتيجة حتمية للتطورات في مجال الاتصالات وابتكار تقنيات اتصال متطورة استفادت الدول والحكومات من خلالها في تحديث الأنماط الإدارية باستخدام الحاسوب وشبكات الانترنت في إنجاز الأعمال، وتقديم الخدمات للمواطنين بطريقة الكترونية، مما يساهم بفاعلية في حل العديد من المشكلات التي من أهمها الانتظار الطويل أمام الموظفين في المصالح والدوائر الحكومية، فضلا عن تجنب الروتين والوساطة والبيروقراطية وغيرها من العوامل التي تقف حائلا دون تطور النظم الإدارية الحالية، بالإضافة إلى ما تتميز به الإدارة الالكترونية من سرعة في إنجاز الأعمال وتوفير الوقت والجهد.
وفي سبيل دفع الحكومة إلى الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة في مجال تحديث الإدارة وجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، عدة توجيهات في خطب متعددة نذكر منها:
“ندعو الحكومة إلى اعتماد استراتيجية جديدة في المجال الصناعي والخدماتي وتنمية تكنولوجيات العصر، تقوم على الاستغلال الأمثل لما تتيحه العولمة من فرص تدفق الاستثمار، وتهدف إلى تقوية المقاولة المغربية وتشجيع الاستثمار الصناعي الحامل للقيمة المضافة، وفتح المجال أمام الاقتصاد الوطني، لاقتحام أنشطة صناعية جديدة ذات تقنيات مبتكرة، وأسواق واعدة، لتصدير منتوجاتها وخدماتها، فعزمنا يوازي طموحنا لإدماج المغرب بمقاولاته وجامعاته في الاقتصاد العالمي للمعرفة”.
كما وجه جلالته رسالة سامية إلى المشاركين في المنتدى الوطني للوظيفة العمومية والذي جاء فيها: “وتعد الاستفادة من التكنولوجيات الحديثة عاملا حاسما في الارتقاء بالعمل الإداري، إذ ينبغي التوجه نحو تعميم الإدارة الرقمية، وتوفير الخدمات عن بعد والولوج المشترك للمعلومات من طرف مختلف القطاعات”.
من هذا المنطلق تتضح الرؤية الملكية السامية نحو تحديث الإدارة وتوفير الخدمات الإدارية عن بعد، بحيث أن من آليات الرفع من مستوى العمل الإداري هو الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة، وتعتبر هذه الرؤية بمثابة خارطة طريق للحكومة للمضي قدما في مشروع رقمنة الإدارة العمومية.
من هنا نتساءل عن واقع الإدارة الرقمية ورهاناتها المستقبلية؟
وللإجابة عن هذا التساؤل فإننا سنتطرق الى مطلبين أساسيين، حيث في المطلب الأول سنتحدث عن الإطار المفاهيمي للإدارة الالكترونية، في حين سنناقش واقع وآفاق الإدارة الرقمية بالمغرب وهذا في المطلب الثاني.
المطلب الأول: الإطار المفاهيمي للإدارة الالكترونية
من خلال هذا المطلب سنتطرق الى مفهوم الإدارة الإلكترونية والخصائص التي تتميز بها وهذا في الفقرة الأولى، ثم سنتعرض في الفقرة الثانية لمقومات هذه الإدارة وهذا في الفقرة الثانية.
الفقرة الأولى: مفهوم الإدارة الإلكترونية وخصائصها
يعد مفهوم الإدارة الإلكترونية من أبرز المفاهيم التي أدخلتها الثورة المعلوماتية وشبكة الانترنت إلى الحياة اليومية للمواطنين، والتي ظهرت نتيجة لتطورات متفاعلة مع الإنسان على مستوى جغرافي واسع، حيث تعد فكرة الإدارة الإلكترونية من الأفكار الجديدة في تطبيقاتها، تهدف إلى إحداث تطوير جذري في الأداء الإداري الأمر الذي سيكون له الأثر الكبير في تطوير خدمات الأجهزة الإدارية المحلية.
ومن بين المفاهيم الحديثة في المجال الإداري والتي تطرق لها مشروع المدونة الرقمية رقم 67.13 في المادة الأولى والتي عرفها بأنها “مجموعة التكنولوجيات والاستعمالات المرتبطة بالإمكانية المتاحة أمام المستعمل سواء كان شخصا ذاتيا أو معنويا، من أجل إخباره وتوجيهه ولتمكينه من مباشرة المساطر الإدارية بواسطة الخدمات عبر الخط وكذا بإمكانية الإدارة من التواصل مع المستعمل عبر نفس الخدمات. تعد كذلك إدارة إلكترونية مجموعة العلاقات بين خدمات الإدارة المنجزة بطريقة إلكترونية”.
كما أعطيت لها مجموعة من التعريفات تنطلق من الزاوية التي ينظر منها لهذا المفهوم الجديد، وقد عرفها أحد الفقهاء بكونها “تحول المصالح الحكومية وجهات القطاع الخاص نحو قضاء وظائفها ومهامها فيما يتعلق بخدمة الجمهور أو فيما بينها وبعضها البعض بطريقة إلكترونية عن طريق تسخير تقنية المعلومات ووسائل الاتصال الحديثة في أداء هذه المهام”.
كما عرفت بكونها “الوسيلة التي تستخدم لرفع مستوى الأداء والكفاءة، وهي إدارة بدون أوراق لأنها تستخدم الأرشيف الإلكتروني”.
وعلى هذا الأساس فإن الإدارة الإلكترونية هي أداء المعاملات الإدارية من تخطيط وتوجيه ورقابة، وتقديم الخدمات بطريقة فعالة معتمدين في ذلك على تقنيات المعلومات والاتصالات من حواسيب، برمجيات وشبكات اتصالات، وبالتالي ربح للوقت والمال والجهد من جهة وسهولة أداء المهام واستغلال جيد للمعلومات من خلال سرعة تبادلها مما يسهل اتخاذ القرار المناسب من جهة أخرى.
والانتقال من الإدارة التقليدية المادية إلى الإدارة الالكترونية أو الرقمية لا يعني بالمرة أننا سنكون أمام إقصاء كلي للأولى فهذا لا يمكن تصوره، وإنما الهدف الأساسي والأسمى من هذا التحول هو تسهيل وتيسير سبل القيام بالعمل الإداري وتقديم الخدمات الإدارية للمرتفقين على أكمل وجه لها.
وتتميز الإدارة الإلكترونية بمجموعة من الخصائص المميزة:
إدارة غير ورقية: وهذا أمر ينسجم مع طبيعة التكنولوجيا المستخدمة في هذا الإطار، إذ من بين أهم مميزاتها أن الورق لا يدخل في منظومتها، فكل ما يعتمد فيه على الورق تم تغييره بوسائل تقنية حديثة تفي بنفس الغرض او أكثر، وإذا كان هناك استخدام للورق فإن ذلك في نطاق ضيق جدا.
إدارة بلا مكان: فالتكنولوجيا لا تعترف بمقر محدد للإدارة، فالعمل الإداري أصبح بالإمكان القيام به من أي مكان وليس بالضرورة أن يكون الموظف المعنى مثلا متواجدا بمكتبه في الإدارة.
إدارة بلا زمان: فالتوقيت الإداري لم تعد له أهمية في ظل هذه التقنيات وبالتالي يمكن القيام بالعمل في أي وقت ولو خارج ما يعتبر أوقات عمل رسمية بالمفهوم التقليدي، وأيضا هذه المسألة مهمة جدا وذات فعالية خصوصا في الظروف الاستثنائية والطارئة.
إدارة بلا تنظيمات جامدة: لأن كل ما يتعلق بالتنظيم الإداري في البيئة الالكترونية يتسم بالمرونة، ويمكن أن يتغير ويتطور ويتناغم مع المستجدات التي تقع في كل حين.
وبطبيعة الحال فمفهوم الإدارة الإلكترونية يتداخل مع مفهوم الحكومة الإلكترونية، وبغض النظر عن الجدل القائم حول وحدة المفهوم من وجود مفهومين مغايرين الا انهما معا من طينة واحدة، لذلك أؤيد التوجه القائل بأنه ليس هناك فرق بين المفهومين، فكلاهما يعبران عن استراتيجية إدارية لعصر المعلومات تعمل على تحقيق خدمات أفضل للمواطنين والمؤسسات والمتعاملين معها، مع استغلال أمثل لمصادر المعلومات المتاحة من خلال توظيف الموارد المادية المتاحة في إطار إلكتروني حديث من أجل الاستثمار الأمثل للوقت والمال والجهد، تحقيقا للمطالب المستهدفة بالجودة المطلوبة.
والحكومة الالكترونية بيئة افتراضية تقوم فيها الأجهزة الحكومية بتنفيذ أعمالها وتقديم خدماتها إلى الجهات المستفيدة عن طريق استخدام التقنيات الرقمية المتطورة لتحقيق الكفاءة وضمان أمن المعلومات بعيدا عن مفهوم الزمان والمكان، وهي بالتالي تستخدم التكنولوجيا الحديثة للرقي بالخدمات الحكومية.
الفقرة الثانية: مقومات الإدارة الإلكترونية
يعتبر برنامج الإدارة الإلكترونية من بين المشاريع الهامة وذات الفائدة لتحقيق فعالية النشاط الإداري والرفع من معدلات التنمية على أن يواكب هذا المشروع وعي اجتماعي يعتمد الحداثة في الفعل ويقطع مع الأساليب التقليدية في تدبير الشأن العام.
واللجوء إلى الإدارة الإلكترونية أو ما يسمى بـ “الإدارة بدون أوراق” بغية تسهيل حصول المواطنين على المعلومات جاء نتيجة حتمية ومنطقية لثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وأجهزة الحاسوب والإنترنت والألياف البصرية وغيرها من الأجهزة الإلكترونية.
وتتكون الإدارة الإلكترونية من أربعة عناصر أساسية وهي: الحاسب الآلي ومكوناته المادية وملحقاته، وبرامج الحاسب، وشبكات الاتصالات، وصناع المعرفة من الخبراء والمختصين الذين يمثلون البنية الإنسانية والوظيفية لمنظومة الإدارة الإلكترونية.
والانتقال للإدارة الرقمية أو الالكترونية بشكل سليم يستلزم مجموعة من الأسس والمقومات التي من الضروري توافرها، وإلا فهذا الانتقال وإن تم الشروع فيه، لن يحقق أهدافه ولن يتحقق له الدوام والاستمرار، ومن بين أهم هذه المقومات نجد:
وجود إرادة حكومية حقيقية بضرورة التحول الرقمي: بحيث يجب أن تكون هناك قناعة حكومية راسخة ورؤية واضحة للتحول من البيئة التقليدية الورقية إلى البيئة الرقمية، وكذا تشجيع الموظفين على الابتكار والتجديد في طرق أداء العمل الإداري عبر الحوافز والمكافآت، مما يفرض عليهم العمل على توفير كل الوسائل الكفيلة بهذا الانتقال، بما في ذلك تقديم الدعم بمختلف أشكاله للإدارات والمؤسسات التابعة لها.
وهذا الأمر لا ننفي وجوده لدى الحكومة المغربية ويظهر ذلك جليا من خلال البرنامج الحكومي المسطر للولاية الممتدة بين 2016 و2021، حيث أنه من بين التدابير التي أعلنت الحكومة على اتخاذها في مجال إصلاح الإدارة والخدمات العمومية وتقريبها من المواطن، مباشرة إصلاح شامل وعميق للإدارة يعتمد أساسا على الإدارة الرقمية والتدبير المبني على النتائج، وأيضا وضع إطار تنظيمي لتبسيط الإجراءات والمساطر الإدارية ورقمنتها، ومواصلة الرفع التدريجي للطابع المادي للمساطر ودعم استعمال التكنولوجيا الرقمية لتحسين وتسهيل ولوج المواطن للخدمات العمومية.
وأيضا عبر الخطة الوطنية لإصلاح الإدارة 2018-2021 والتي تتضمن تحولات هيكلية مهمة تشتمل على مجموعة من المشاريع الأساسية، ومن ضمن هذه التحولات نجد التحول الرقمي الذي يتحدد في اعتماد الآليات والوسائل التكنولوجية الحديثة واستثمارها من طرف مختلف الإدارات العمومية من أجل تعميم ودعم الخدمات الرقمية المشتركة بينها وتيسير ولوج المواطن والمقاولة إليها، ويشتمل على أربعة مشاريع.
فهذا الانتقال نحو الإدارة الرقمية أو الالكترونية يستوجب إرادة حكومية حقيقية وصارمة هدفها الأساسي والأسمى إصلاح الإدارة وتطوير العمل الإداري بما يتماشى وتطورات العصر، من تقريب الخدمات الإدارية للمواطن وتسهيل حصوله عليها وبجودة عالية وبتكاليف أقل وفي جو يطبعه الأمان.
كما ينبغي الإشارة إلى مسألة أساسية ومهمة وهي العمل الجماعي التشاركي وفق خطة محكمة ورؤية واضحة تجعل التحول نحو الرقمنة يسير وفق نسق موحد، وتنخرط فيه جميع الإدارات وجميع المؤسسات وفق منهج إلزامي موحد، تفاديا للعشوائية في التخطيط والتنفيذ.
توفير الموارد المالية اللازمة: الإدارة الالكترونية تعد من المشاريع الضخمة والتي تحتاج إلى أموال طائلة لكي نضمن له الاستمرار والنجاح وبلوغ الأهداف المنشودة، من تحسين مستوى البنية التحتية، وتوفير الأجهزة والأدوات اللازمة والبرامج الالكترونية، وتحديثها من وقت لآخر وتدريب العناصر البشرية باستمرار.
والإدارة الإلكترونية إدارة تقنية حديثة بدون أوراق تستخدم التكنولوجيات العالية، فهي بهذا تتطلب توفر أموال ضخمة لكي تضمن استمرارها وتحقق أهدافها المسطرة، كذلك يجب توفر مختلف الأدوات الضرورية للعمل، بالإضافة إلى البرامج المتنوعة والمتطورة التي تستلزم توفير التمويل الكافي لذلك، ولهذا يجب أن يكون التخطيط المالي لتطبيق إدارة حديثة عقلاني ورشيد يعمل على حسن توزيع النفقات.
فالموارد المالية مهمة جدا وتعتبر حجر الزاوية في إنجاز وتحقيق أي مشروع، فلا يمكن للإرادة الحكومية السالفة الذكر بالانتقال التدريجي نحو رقمنة الإدارة العمومية أن تحقق أهدافها بدون توفير الموارد المالية الضرورية لتفعيلها وأيضا للاستمرار في صيانتها وتطويرها فانه يجب مواكبة المتطلبات التي تفرزها التطورات المتسارعة التي يعرفها الميدان التقني.
توفير البنية التحتية للاتصالات وموارد تكنولوجيا المعلومات: فالبنية التحتية هي الجانب المحسوس في الإدارة الالكترونية، من تأمين أجهزة الحاسوب، وربط الشبكات الحاسوبية السريعة والأجهزة المرفقة معها، وتأمين وسائل الاتصال الحديثة…
فمسألة توفير الأجهزة التكنولوجية الكفيلة بتطبيق الإدارة الإلكترونية وتطوير شبكات الاتصال، مسألة ضرورية وأساسية، كما يجب على كل الإدارات والمؤسسات الانخراط في هذه العملية لتسهيل تبادل المعلومات والبيانات بالشكل الذي يسهل إجراءات تقديم الخدمات الإدارية بيسر وسهولة.
توفير البيئة القانونية المناسبة: بطبيعة الحال فالتحول نحو رقمنة الإدارة العمومية يستوجب تشريعات تدعم هذا التحول، حتى يمارس العمل الإداري الإلكتروني في إطار قانوني واضح، ولا يخفى على أحد أن معظم القوانين الموجودة في بلادنا تتعلق بالأساس بالإدارة التقليدية الورقية، وعليه فالقانون لا بد له من أن يساير التطورات التكنولوجية ما دام أن القانون أصلا وليد المجتمع ويتطور بتطوره.
لذلك لا بد من أن تكون هناك قوانين تسهل مأمورية تفعيل وتطوير الإدارة الالكترونية طبقا للقانون، لأن الدخول في هذه البيئة الافتراضية في كل المجالات ومن ضمنها الإدارة طرح مجموعة من التساؤلات المشروعة حول مدى قانونية الدفع الإلكتروني، مدى حجية المحرر الالكتروني والتوقيع الالكتروني في الإثبات، حماية الخصوصية في البيئة الالكترونية، حماية البيانات والمعطيات الشخصية التي يتم تبادلها إلكترونيا، زجر الجرائم المعلوماتية بمختلف أصنافها.
والمشرع المغربي قطع خطوات جد مهمة في الحماية التشريعية في مجال الانترنت عبر إصداره لمجموعة من القوانين والتي تهم مواضيع متنوعة، أهمها القانون رقم 53.05 المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية كأول قانون ينظم مجال المعاملات الالكترونية، حيث أقر المشرع بموجب هذا القانون الحجية الكاملة للمحررات الإلكترونية مثل مثيلاتها الورقية التقليدية.
وكذا إصدار القانون رقم 09.08 المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي، حيث نصت الفقرة الأولى من المادة الأولى من هذا القانون على أن “المعلوميات في خدمة المواطن، وتتطور في إطار التعاون الدولي، ويجب ألا تمس بالهوية والحقوق والحريات الجماعية أو الفردية للإنسان، وينبغي ألا تكون أداة لإفشاء أسرار الحياة الخاصة للمواطنين”.
وبالإضافة للمقتضيات التي تضمنتها القوانين السالفة الذكر في مجال محاربة الجرائم المعلوماتية، أصدر القانون رقم 07.03 بشأن الجرائم المتعلقة بنظم المعالجة الآلية للمعطيات، لتحقيق الأمان عند التعامل في البيئة الرقمية.
توفير الموارد البشرية المتخصصة: العنصر البشري يعد من أهم العناصر في المؤسسات، إذ بدون هذا العنصر لن تتمكن هذه الأخيرة من تحقيق أهدافها حتى وإن امتلكت أضخم المعدات والآلات والأجهزة، لذا لابد من تأهيل العناصر البشرية تأهيلا جيدا وعلى مستوى عالي من الكفاءة.
فالتغيرات التكنولوجية السريعة حتمت على الدول تدريب أفرادها وتأهيلهم للتعامل الفعال مع معطيات العصر التقني، حيث أن التطور التقني السريع في الحاسب الآلي من أهم العوامل التي وضعت الكثير من التحديات أمام العديد من الإداريين لاستيعاب هذا التطور.
والموظف هو العنصر الأساسي للتحول إلى الإدارة الإلكترونية، لذا لا بد من تدريب وتأهيل الموظفين كي ينجزوا الأعمال عبر الوسائل الإلكترونية المتوفرة، وهذا يتطلب عقد دورات تدريبية للموظفين، أو تأهيلهم على رأس العمل.
إعداد الكوادر المؤهلة والقادرة على مواكبة التطور التقني، خاصة وأن استخدام تقنيات الاتصال والمعلوماتية لم تعد ترفا، بل هي ضرورة لا يمكن لمجتمع من المجتمعات المتحضرة أن يتجاهلها.
كما أن توفر الكفاءات والموارد البشرية سواء من حيث الكم أو الكيف يعد شرطا لتنفيذ الاستراتيجية الوطنية لقطاع تكنولوجيات المعلومات، وذلك بإحداث تكوينات متخصصة للموظفين بشكل مستمر قصد تسهيل انخراطهم في هذا الورش الوطني.
كما ان استراتيجية الإدارة الالكترونية والاستفادة من مزاياها تفرض ضرورة تهيئة العنصر البشري للانتقال بالمجتمع إلى استخدام الأساليب التكنولوجية الحديثة في المعاملات اليومية بدمج التكنولوجيا في المناهج التعليمية بكافة المراحل لإعداد أجيال قادرة على التعامل مع التكنولوجيا والتفاعل معها، خصوصا إذا علمنا أن مسألة التحول نحو الإدارة الالكترونية اصبحت مسألة إجبارية وليست اختيارية، ولا سبيل للارتقاء بالعمل الإداري دون الانخراط بجدية في هذا التحول.
أضف إلى ذلك أن التأهيل لوحده غير كاف وإنما ينبغي الرفع من عدد الموظفين المؤهلين في الإدارات العمومية ليتمكنوا من قضاء الأغراض الإدارية للمرتفقين عن بعد، لأنه لا يعقل أن يقوم نفس الموظفين بالعمل بشكل مزدوج، حضوريا وعن بعد أيضا.
توفير وسائل التعامل الآمن في البيئة الالكترونية: فأمام الثورة التقنية وازدياد شبكات الاتصالات والمعلومات أصبحت هناك حاجة ماسة لأساليب وإجراءات أمنية تساعد على حماية المعلومات والبيانات من الاختراق، فكلما ازداد استخدام الحواسيب زادت الحاجة إلى حماية المعلومات المخزونة فيه وأصبح أمن المعلومات رسالة مهمة للشركات والأفراد، بحيث يقاس الأمن المعلوماتي بقدرة النظام الالكتروني على مقاومة الاختراق المعلوماتي لمحتويات الشبكة ومحاولة استهداف البيانات والمعلومات المخزنة فيه بالإضافة إلى محاولات تعطيل أنظمة الاتصالات المرتبطة بالشبكة.
كما أن الإدارة الإلكترونية في حقيقتها عبارة عن تدبير معلوماتي لمعطيات خاصة بالمتعاملين مع الإدارة وهي معطيات متعلقة في غالبيتها بأمور شخصية قد يكون الاطلاع عليها غير قانوني ويسبب ضررا بأصحابها.
لذلك فتشفير البيانات والمعطيات التي يتم تبادلها إلكترونيا يعتبر من بين أهم وسائل حماية المعطيات الشخصية بما يحقق حماية ضد انتهاك الخصوصية وتأمين سرية المعلومات المتداولة بين الإدارة والأفراد على شبكة الانترنت.
تأهيل وتحسيس المواطن بمزايا وإيجابيات الانتقال نحو الرقمنة: فهذا يفرض العمل على جعل المواطن قادرا على استعمال تكنولوجيا المعلومات، وتيسير سبل ولوجه إليها، وكذا تحسيسه بأهميتها، وهذا الأمر يجب أن تقوم به كل الجهات وكل المؤسسات العامة والخاصة ويستوجب مجهودات حثيثة وجبارة، لتوضيح إيجابيات هذا التحول من إدارة ورقية إلى إدارة إلكترونية، والتقليل من الخوف المسيطر على شريحة كبيرة من المرتفقين خصوصا فيما يتعلق بأمن معطياتهم الشخصية وسريتها، لأن ضعف الوعي لدى المواطنين بمزايا هذا التحول والحماية التقنية والقانونية لمعطياتهم الشخصية يشكل عقبة حقيقية في طريق نجاح هذا المشروع واستمراريته.
وجود إرادة حقيقية وواعية بجدوى التحول نحو الرقمنة: فهذه المسألة تتطلب وجود مسؤولين لديهم رغبة في تطوير العمل الإداري وتجويد الخدمات العمومية المقدمة، وتسهيل الولوج للمعلومة وتبسيط الإجراءات والمساطر واستخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة في كل ما يتعلق بالمرفق الإداري بما يخفف من أعباء هذا العمل على الموظفين ويسهل على المرتفقين قضاء أغراضهم بسهولة ويسر.
وعليه أصبحت رقمنة الخدمات الإدارية تفرض نفسها وبقوة في ظل تفشي هذا الوباء، بالشكل الذي يقلل من التعامل بالأوراق والتنقل للإدارات العمومية لقضاء مختلف الأغراض الإدارية، بما فيها ما يتعلق بالاستشارة والتوجيه، وقد أثبت الوضع الحالي أهمية اللجوء لهذه الوسائل التكنولوجية الحديثة خصوصا فيما يتعلق بالإقبال على الخدمات التي سبق تفعيلها من قبل بعض الجهات الإدارية.
هذا بالرغم من أنه ينبغي الإشارة إلى أنه في الغالب أن اعتماد الوسائل الإلكترونية لا يشمل سوى طلبات الحصول على الوثائق الإدارية دون أن يشمل العمليات التي يتم إنجازها برمتها، لكن رغم ذلك فالمطلوب هو نزع الصبغة المادية عن هذه المساطر والإجراءات بمجملها ولو بشكل تدريجي في أفق تعميمها لتشمل كافة الوثائق الإدارية.
فالإدارة مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى ضرورة الانتقال في أداء وظائفها من البيئة الورقية المادية إلى البيئة الالكترونية اللامادية باستخدام تكنولوجيا المعلومات، بما يحقق أهداف المرفق الإداري بكل أمن ومصداقية، ولا يمكن لأية دولة ترغب في مواكبة التطورات التي يعرفها العالم أن تتأخر في اعتماد الرقمنة في مرافقها الإدارية.
المطلب الثاني: واقع وآفاق الإدارة الرقمية بالمغرب
في نطاق هذا المطلب سأتعرض في الفقرة الأولى لواقع الإدارة الرقمية بالمغرب، على أن أتعرض لآفاق الإدارة الرقمية بالمغرب في الفقرة الثانية.
الفقرة الأولى: واقع الإدارة الرقمية بالمغرب
لقد كان لاستراتيجية المغرب الرقمي 2013 دور كبير في ترسيخ مبادئ الإدارة الإلكترونية بالمغرب، فللخدمات العمومية وفعاليتها تأثير كبير على الحياة الاقتصادية والاجتماعية لبلادنا فقد أصبح من الضروري تقديم هذه الخدمات بطريقة مندمجة وشفافة ومؤمنة حتى يتسنى، بفضل تكنولوجيات المعلومات تحويل المجتمع المغربي تدريجيا إلى مجتمع المعلومات تماشيا مع حاجيات وتطلعات المواطنين والمقاولات.
وأكد تقرير المغرب الرقمي أن من بين أهداف خطة المغرب الرقمي جعل قطاع تكنولوجيات المعلومات مصدرا للإنتاجية والقيمة المضافة بالنسبة للإدارة العمومية.
كما أن هذه الاستراتيجية تمحورت حول مجموعة من الأولويات، منها تقريب الإدارة من حاجيات المتعاملين معها من حيث الفعالية والجودة والشفافية بواسطة برنامج طموح للإدارة الإلكترونية.
ورغم المكاسب التي تم تحقيقها في إطار العمل على رقمنة الخدمات الإدارية من فتح العديد من الخدمات الإدارية على شبكة الانترنت، تنفيذا لهذه الاستراتيجية، لكن المجلس الأعلى للحسابات في تقريره التقييمي لاستراتيجية المغرب الرقمي 2013، كشف عن أوجه قصور متعددة في عملية الإعداد، من أهمها غياب مقاربة تشاركية مع مختلف المتدخلين والفاعلين، وذلك على النقيض مما جرى في دول أخرى والتي أنشأت بوابات عبر الأنترنت قصد الاطلاع على احتياجات مستعملي شبكة الإنترنت، وقد ترتب عن ذلك ظهور صعوبات اعترضت تنفيذ بعض المشاريع، مثل تلك التي تتعلق بتنفيذ برنامج تعميم تكنولوجيا المعلومات والاتصال على مؤسسات التعليم العمومي، ومشروع رقمنة سجلات الحالة المدنية، ذلك لأنه لم يتم إعداد الاستراتيجية مراعاة مدى استعداد الجهات الفاعلة جهويا ومحليا لإدماج هذه التكنولوجيات، ومن ثمة تأمين الرفع من جودة الخدمات التي تقدمها الإدارات ودعم التحديث الموفق لإجراءاتها المهنية.
وتجدر الإشارة إلى أن منظمة الأمم المتحدة، تقوم كل سنتين، بترتيب 193 دولة حسب مؤشر مركب يسمى بـ “مؤشر منظمة الأمم المتحدة للحكومة الإلكترونية “، وهو معدل للمؤشرات الثلاث التالية: البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات ورأس المال البشري وخدمات عبر الخط، وفيما يتعلق بالترتيب الدولي للمغرب في الحكومة الالكترونية، فقد انتقل من المرتبة 126 سنة 2010 إلى المرتبة 120 سنة 2012، ثم المرتبة 82 سنة 2014، ليتراجع بعد ذلك للمرتبة 85 سنة 2016 ويواصل تراجعه للمرتبة 110 سنة 2018.
وعلى مستوى المؤشر المتعلق بالخدمات الرقمية عبر الخط الذي هو مجال عمل الحكومة الالكترونية، حقق المغرب تطورا ملحوظا منذ سنة 2010 حيث احتل المرتبة 104 لينتقل للمرتبة 56 سنة 2012 ثم للمرتبة 30 سنة 2014، لكن لم يحافظ على هذا الترتيب الإيجابي ليتم تسجيل تراجعه للمرتبة 78 عالميا سنة 2018.
وما يلاحظ على هذه المؤشرات أن المغرب بمجرد الانتهاء من الفترة المحددة لاستراتيجية المغرب الرقمي 2009 – 2013 بدأ في التهاوي مرة أخرى، وإذا كان هذا يدل على شيء، فهو يدل على أن رقمنة الإدارة المغربية وتيسير ولوج المرتفقين إليها ما زالت تعترضها العديد من العراقيل والعقبات التي ينبغي العمل على تذليلها في المستقبل.
كما تجدر الإشارة إلى أن الحكومة المغربية أطلقت مجموعة من المواقع الالكترونية المهمة، منها:
الموقع الخاص ببرنامج الحكومة http://www.egov.ma، وتم التأكيد على أن الطموح الأساسي لهذا الموقع هو الإخبار عن برنامج الحكومة الإلكترونية الذي يعتبر استراتيجية مخطط المغرب الرقمي 2013 لمرحلة 2009-2013 ويسمح بمنح رؤية حول وضعية التقدم الشمولي للبرنامج وذلك بالسماح لولوج خريطة الطريق لكل الخدمات ومشاريع الحكومة الإلكترونية.
ويعتبر كذلك فضاء تفاعليا يسمح لكل مستطلع بإعطاء رأيه أو التعبير حول كفاءة الموقع وأهمية المشاريع التي تم إنجازها والتي في طور الإنجاز بالإجابة على استمارات عبر الخط التي يتم تحيينها باستمرار، يسمح لكل الأطراف المعنية لهذا البرنامج بالتواصل حول أنشطته كما يشكل جزء من سلسلة المواقع التي تسعى إلى النهوض بقطاع تكنولوجيات الإعلام بالمغرب ويعمل على توفير أخبار حول الخدمات عبر الخط للإدارة المغربية.
ويشتمل أيضا على حيز خاص بالخدمات الإلكترونية المفعلة وتلك المفعلة وفي طور التعميم وأيضا المشاريع التي في طور الإنجاز، منها ما هو موجه للمواطن وما هو موجه للمقاولة وأيضا ما هو موجه الإدارات العمومية.
وأيضا يتوفر هذا الموقع على حيز خاص بالولوج عبر روابط مباشرة للخدمات الإلكترونية المقدمة من مختلف الإدارات.
بوابة الخدمات العمومية”/http://www.service-public.ma”، وتعد مرجعا أساسيا للولوج عبر الانترنيت لمجموع خدمات الإدارة المغربية والتي تشتمل على كل المعلومات المتعلقة بالمساطر الإدارية والخدمات العمومية الإلكترونية بثلاث لغات العربية والفرنسية والإنجليزية، وأيضا في طور اعتماد اللغة الأمازيغية وتندرج في إطار البرنامج المغربي للإدارة الإلكترونية، وهي تهدف قبل كل شيء إلى تحسين علاقة الإدارة بالمرتفقين.
وتسهر وزارة تحديث القطاعات العامة على إدارة هذه البوابة، كما تشرف على لجنة مشتركة تضم ممثلين عن كافة الإدارات المعنية، تقوم بتحيين محتواها.
كما يضم هذا الموقع وصفا مفصلا لجميع المساطر الإدارية وفقا لنموذج موحد يحدد المعلومات الأساسية لتطبيقها، كما يشمل كل الخدمات التي تتم عن بعد أو على الخط والمتعلقة بمختلف المجالات، كما يتيح إمكانية تحميل مجموعة من الوثائق.
لكن الإدارة الإلكترونية لا يجب أن ينصرف معناها إلى إنشاء مواقع أو صفحات للإدارات العمومية على شبكة الانترنت فقط، لكن وبشكل دقيق ممارسة العمل الإداري بشكل تدريجي عبر الانترنت بالشكل الذي يجعل كل المتعاملين مع الإدارة من مواطنين ومقاولات ومؤسسات وأيضا حتى الإدارات العمومية فيما بينها تنجز أعمالها الإدارية وتتبادل معطياتها وبياناتها مباشرة على شبكة الانترنت.
بمعنى أن الدعامة الورقية لا مكان لها في هذه المنظومة إلى أبعد الحدود، لأن إنشاء مواقع أو صفحات لإدارة معينة دون أن يكون بالإمكان مثلا الحصول على الخدمات التي تقدمها تلك الإدارة عبر الانترنت لا يمكن أن نتحدث عن إدارة إلكترونية، وبالتالي فيجب أن تنجز جميع العمليات التي كانت تنجز بالطريقة التقليدية في تعامل مادي مع الإدارة أن تنجز بشكل الكتروني لكن شريطة احترام معايير الجودة والأمان.
كما تم إحداث البوابة الالكترونية للشكايات “www.chikaya.ma”، تطبيقا للفصل 156 من الدستور والتوجيهات الملكية السامية بضرورة الإجابة على شكايات المواطنين وحل مشاكلهم، وقد جاء في المادة من المرسوم المحدد لكيفيات تلقى ملاحظات المرتفقين واقتراحاتهم وشكاياتهم وتتبعها ومعالجتها، حيث تتلقى الإدارة شكايات المرتفقين إلكترونيا عبر بوابة محدثة لدى السلطة الحكومية المكلفة بإصلاح الإدارة وبالوظيفة العمومية.
وقد انخرطت في هذه البوابة 119 إدارة، وتم التوصل بـ 659287 شكاية، وفق آخر الإحصائيات المعلن عنها على هذه البوابة
الفقرة الثانية: آفاق وأهداف الإدارة الالكترونية بالمغرب
إن تشعب الخدمات والأنشطة التي تقدمها الإدارة وأهميتها للمواطنين والمؤسسات تحتم ضرورة تحولها إلى أسلوب الإدارة الإلكترونية من خلال استخدام الوسائل والتقنيات الإلكترونية الحديثة لتوفير المرونة اللازمة استجابة للمتغيرات الداخلية والخارجية المتلاحقة وصولا إلى اختصار الإجراءات التي تبدد الوقت والجهد والنفقات.
ويعد تطبيق الإدارة الإلكترونية وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، ذلك أن التحول لنظام الإدارة الالكترونية من قبل الجهات الحكومية وجهات القطاع الخاص سيؤدي إلى تحقيق أهداف تتفق مع ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات، الأمر الذي سينعكس على شكل الأداء العام ومدى تقديم الخدمات للجمهور بسهولة وتكلفة أقل.
والأهداف المتوخاة من التحول للإدارة الإلكترونية لا عد لها ولا حصر، منها:
التخفيض من التكاليف المرتفعة للإدارة والتي ترهق كاهل الدولة من أوراق وتجهيزات وأرشيف، فنفقات القطاع العام في المغرب تمثل حصة مهمة في الميزانية العامة للدولة وسيحقق القطاع العام بالتأكيد، عبر إنجاز خدمات الحكومة الالكترونية ومعالجة آلية ومبسطة للمعلومات، نتائج مهمة من حيث الفعالية والتأثير.
تحسين وتجويد الخدمات الإدارية المقدمة للمرتفقين بالرفع من الكفاءة في العمل الإداري حيث تكون المردودية هي المعيار وبجودة عالية.
تبسيط الإجراءات والمساطر الإدارية وسهولة معرفة المساطر المتبعة من قبل جميع المواطنين، وهذا الأمر بطبيعة الحال يحسن من جودة الخدمات المقدمة للمرتفقين من مختلف المناحي من سرعة وفعالية في إنجاز الخدمات وقلة في التكلفة، وأيضا من خلال إمكانية استقبال عدد كبير من المرتفقين في نفس الوقت، وتفادي ضرورة التنقل للإدارة، والازدحام وطول الانتظار داخل المرافق العمومية المختلفة والحد من سلبيات تناثر المصالح والإدارات العمومية، بحيث أن المرتفق يحصل على الغرض الإداري المنشود بدون اهتمام بالجهة التي تقدمها لأن الأهم بالنسبة له هو الوصول للنتيجة المرجوة.
ممارسة العمل الإداري بالشفافية اللازمة وذلك بتطبيق المساواة بين المرتفقين في إتباع مساطر الحصول على الخدمات الإدارية، وأيضا تعزيز العدالة والمساواة في الاستفادة من خدمات المرفق العمومي مما سيعزز من ثقة المواطنين بالجهات الإدارية.
تعزيز تبادل المعلومات والمعطيات بين المؤسسات الإدارية المختلفة بالشكل الذي يسهل من هذه المأمورية بالسرعة اللازمة، ويعفي المرتفق من تقديم بيانات أو معلومات تتواجد لدى إدارة أخرى سبق له التعامل معها.
استمرارية المرفق العام بالشكل الذي يعزز الاستمرار في أداء الخدمات الإدارية المختلفة، سواء في الأوقات العادية أو في أوقات الأزمات والحالات الطارئة، مثل الوضع الذي فرضته جائحة كورونا.
تعزيز القدرة التنافسية للمؤسسات العمومية.
التقليل من حالات التغيب عن العمل في القطاعين العام والخاص لقضاء الأغراض الإدارية.
التغيير المستمر في أدوات العمل لتحسين جودة الأداء.
السرعة في توفير المعلومة والشفافية في الحصول عليها بالشكل الذي يمكن من بسط الرقابة على سير الخدمات الإدارية، من طرف مختلف أجهزة المراقبة الداخلية والخارجية بل وحتى من طرف المرتفقين.
التقليل من مظاهر المحسوبية والرشوة والفساد.
المرونة في أداء العمل من طرف الموظف العمومي وفي ظروف مناسبة، بما فيها إمكانية إنجاز العمل عن بعد.
الحد من استخدام الأوراق وبالتالي تلافي مخاطرها.
سهولة عقد الاجتماعات عن بعد.
سهولة تخزين وأرشفة وحفظ المعطيات وحمايتها وكذا نقلها، وسهولة الرجوع إليها للحصول على المعلومة.
ضمان عدم الدخول للبيانات والمعطيات الموجودة بحوزة الإدارة والتلاعب فيها….
ولتحديث الترسانة التشريعية بما يتماشى ومتطلبات التحول نحو الرقمنة، فانه صدر مؤخرا القانون رقم 55.19 المتعلق بتبسيط المساطر والإجراءات الإدارية، والذي أتى بمقتضيات جد مهمة إن تم تطبيقها في حينها فإنها بدون شك ستشكل قفزة نوعية في مسلسل تحديث الإدارة المغربية ورقمنتها.
وقد نصت المادة 4 منه على أن العلاقة بين الإدارة والمرتفق تقوم على مجموعة من المبادئ العامة، منها المبدأ العام المنصوص عليه في البند الثاني والمتمثل في شفافية المساطر والإجراءات المتعلقة بتلقي ومعالجة وتسليم القرارات الإدارية لا سيما من خلال توثيقها وتدوينها والمصادقة عليها وإخبار المرتفقين بمحتواها عبر نشرها، مع الحرص على تيسير الولوج إليها بكل الوسائل الملائمة، لا سيما الإلكترونية منها.
وأيضا المبدأ المنصوص عليه في البند السابع من نفس المادة المتمثل في الحرص على التحسين المستمر لجودة الخدمات المقدمة للمرتفقين، لا سيما من خلال العمل على تسريع وتيرة الأداء والرفع من فعالية معالجة الطلبات ورقمنة المساطر والإجراءات الإدارية واستخدام التقنيات المبتكرة في مجال نظم المعلومات والتواصل.
كما نصت المادة 13 من نفس القانون على مقتضى أساسي ومهم سيساهم بدون شك في تسهيل وتبسيط إجراءات الحصول على القرارات الإدارية وتسليمها، حيث جاء فيها “مع مراعاة النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي تودع ملفات الطلبات المتعلقة بالقرارات الإدارية عبر منصات إلكترونية تحدث تدريجيا لهذا الغرض، ويتم عبر هذه المنصات إخبار المرتفقين بالمآل الذي تم تخصيصه لطلباتهم وتسليمهم، عند الاقتضاء، القرارات الإدارية موضوع الطلب”.
وأوجب المشرع على الإدارات في الفقرة الأولى من المادة 25 القيام برقمنة المساطر والإجراءات المتعلقة بمعالجة وتسليم القرارات الإدارية التي تدخل في مجال اختصاصها وتلك المتعلقة بأداء المصاريف الإدارية ذات الصلة، وذلك في أجل أقصاه خمس 5 سنوات ابتداء من تاريخ دخول هذا القانون حيز التنفيذ.
وستحدث بوابة وطنية للمساطر والإجراءات الإدارية سيتم تدبيرها وفق الكيفيات المحددة بنص تنظيمي وفق المادة 26، كما نصت المادة 27 على إحداث لجنة وطنية لتبسيط المساطر والإجراءات الإدارية تحت رئاسة رئيس الحكومة.
في حين نصت المادة الثالثة على أن الإدارة لا يمكنها مطالبة المرتفقين إلا بالقرارات الإدارية والوثائق والمستندات التي تنص عليها النصوص التشريعية أو التنظيمية الجاري بها العمل، وتم جردها وتصنيفها وتوثيقها وتدوينها ونشرها بالبوابة الوطنية المشار إليها في المادة 26 والمنفذة وفقا لأحكام هذا القانون، ولتطبيق هذه المقتضيات أوجب المشرع في المادة 29 في فقرتها الثانية على أنه يجب على الإدارات أن تقوم، داخل أجل ستة أشهر من تاريخ دخول هذا القانون حيز التنفيذ، بإعداد مصنفات القرارات الإدارية الجاري بها العمل في هذا التاريخ، والتي تدخل في مجال اختصاصها ونشرها بالبوابة الوطنية.
لكن الواقع يفرض بقاء الأمر على حاله في هذه المرحلة على الأقل، بمعنى الإبقاء على استعمال وقبول الحامل الورقي لطلب قرار إداري معين إلى حين تعميم المنصات الإلكترونية المنصوص عليها في المادة 13 السالفة الذكر، وذلك طبقا لأحكام المادة 30، باستثناء طبعا ما تمت رقمنته من طرف بعض الإدارات العمومية في وقت سابق وتم تفعيله ويتم العمل به حاليا.
كما أن المشرع نص في العديد من المواد على استعمال كل وسيلة من وسائل التواصل الملائمة لإخبار المرتفقين بمساطر وإجراءات الحصول على القرارات الإدارية، مطالبة المرتفقين باستبدال وثيقة أو مستند ومطالبتهم بالإدلاء بمعلومات تكميلية للطلب وتبليغهم بتمديد أجل تسليم قرار إداري وتبليغ القرار السلبي، تبادل جميع الوثائق والمستندات الإدارية التي في حوزة الإدارات والتي تتطلبها دراسة القرارات الإدارية، وبطبيعة الحال يشكل استعمال التقنيات الحديثة للتواصل مع المرتفق في كل ما يتعلق بقضاء أغراضه الإدارية يحتل مكانة مهمة في إطار تحديث المنظومة الإدارية والسير بها نحو الرقمنة، بما يسهل ويبسط من المساطر والإجراءات الإدارية.
وفي نفس السياق وفي إطار رقمنة الخدمات المتعلقة بالحالة المدنية، صدر مرسوم يتضمن مقتضيات تتعلق بإحصائيات الحالة المدنية والتبادل الالكتروني لمعطياتها، حيث نص على وجوب إرسال العمالات أو الأقاليم للإحصائيات بعد تجميعها، وذلك بطريقة الكترونية في نهاية كل شهر إلى المصالح المركزية للحالة المدنية بوزارة الداخلية، كما ستتولى هذه الأخيرة بواسطة نظام معلوماتي مركزي الإرسال والتبادل الالكتروني للمعطيات ذات الطابع الشخصي للأفراد المصرح بهم لدى مكاتب الحالة المدنية المرتبطة بالشبكة المعلوماتية، مع المصالح المختصة وفق المقتضيات التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالتبادل الالكتروني للمعطيات القانونية، وبدون أدنى شك أن تفعيل هذه المقتضيات المهمة يستوجب تأهيل مكاتب الحالة المدنية على الصعيد الوطني بالوسائل التكنولوجية الضرورية لربطها بالشبكة المعلوماتية، لتسهيل مأمورية تبادل معطياتها مع المصالح المعنية.
ودائما في سياق رقمنة الخدمات العمومية أكد وزير الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة في منشور عممه على الجهات المعنية، أنه في إطار دعم التحول الرقمي بالإدارات العمومية وعملا بالتدابير الاحترازية والوقائية التي اتخذتها الحكومة لتفادي تفشي فيروس كورونا -كوفيد 19-، بين العاملين بالمرافق العمومية والمرتفقين، خاصة تلك المتعلقة بحالة الطوارئ الصحية، ولكون التعاملات والتبادلات الورقية تمثل عامل خطر لانتشار عدوى هذا الوباء، أصبح اعتماد الحلول الرقمية من الوسائل التي لا محيد عنها لضمان استمرارية العمل الإداري وتقليص تبادل المراسلات والوثائق الورقية.
وتفعيلا للبرنامج الحكومي في شقه المتعلق بإصلاح الإدارة وتحسين جودة الخدمات العمومية وتقريبها من المواطن، اعتمدت عدة إدارات الحلول الرقمية لتشجيع العمل عن بعد بهدف تقليص تبادل الوثائق والمراسلات والحد من التعاملات والتبادلات الورقية.
وفي هذا الصدد، بادرت وكالة التنمية الرقمية (ADD) بتنسيق مع قطاع إصلاح الإدارة إلى اتخاذ مجموعة من التدابير لدعم الإدارات العمومية في تبني الحلول الرقمية، حيث عملت هذه الوكالة على تطوير مجموعة من الخدمات الرقمية من بينها بوابة مكتب الضبط الرقمي للمراسلات الإدارية، التي تهدف إلى تمكين الإدارات والمرتفقين على حد سواء من إيداع مراسلاتهم عن بعد لدى الإدارات المعنية مقابل وصل رقمي بتأكيد الاستلام.
ويمكن القول بأن هذه المقتضيات القانونية والتوجيهات إن وجدت آذانا صاغية وتم العمل بها وتطبيقها بشكل صارم، مع الأخذ بعين الاعتبار كل المقومات المادية والبشرية والتقنية، ستشكل دفعة قوية لتحديث الإدارة المغربية والسير بها نحو الرقمنة، لتسهيل الولوج لخدماتها عن بعد ووفق كافة الضمانات.
كما أن مسألة التحول الرقمي يجب أن تشمل ليس فقط الإجراءات الإدارية وتقديم طلبات الحصول على الوثائق الرسمية والرخص والشواهد الإدارية وغيرها عبر الانترنت، وإنما رقمنة الخدمات الإدارية برمتها من بدايتها لنهايتها، بمعنى يجب أن نكون فعلا أمام إدارة بدون أوراق ولو بشكل تدريجي.
وبطبيعة الحال إذا كانت جائحة كورونا قد كشفت عن مدى قدرة الإدارة المغربية على الاستمرارية في ظل هذه الظروف الاستثنائية باعتماد تكنولوجيا المعلومات، فمع وجود بعض المواقع الإلكترونية التابعة لقطاعات إدارية معينة تمكن من قضاء بعض الخدمات في إطار معين، لكن ذلك يبقى في نطاق محدود ولا يجعلنا نقول بأننا أمام إدارة رقمية.
كما أن الخدمات التي تم إحداثها من طرف وكالة التنمية الرقمية مؤخرا في إطار مساعدة الإدارة على الانخراط في الخدمات عن بعد، لم تنخرط فيها أغلب الإدارات، لأسباب تظل محل تساؤل، وإن كنت أعتقد بأن الأرضية ليست مؤهلة بعد من موارد مالية وتقنية وبشرية والتي تلعب دورا مهما في التأخر في تبني هذه الخدمات، وهذا الأمر بدون شك يلقي مسؤولية ثقيلة على الحكومة بكل مكوناتها للأخذ بسبل تأهيل هذه الأرضية.
وهذا الوباء الذي فرض على جميع الدول ومن ضمنها المغرب اتخاذ إجراءات احترازية صارمة، وألزمت المواطنين بالبقاء في منازلهم، وفرضت ضوابط معينة على الإدارات العمومية للاستمرار في تقديم خدماتها، وإن كان يشكل خطرا لا شك فيه، فإنه بالمقابل شكل فرصة لصناع القرار لإعادة النظر في الاستراتيجية التي تم تبنيها للسير في طريق رقمنة الإدارة المغربية، وتقييم الجهود التي بذلت من طرف كل القطاعات المعنية، ومن بينها قطاع التكنولوجيا الرقمية، لوضع خارطة طريق جديدة تؤسس لأرضية صلبة لإدارة إلكترونية حقيقية ومواطنة لتعزز مكانتها في المنظومة الدولية.
خاتمة:
وفي الختام فانه لا ينبغي أن تكون الجهود التي بذلت في هذه المرحلة الحاسمة والتي فتحت الطريق أمام الإدارة المغربية للتحول نحو الرقمنة، جهودا ظرفية ومرحلية فقط، بحيث سنعود لسابق عهدنا بعد زوال وانحسار هذه الجائحة، وإنما يجب أن تكون جهودا مستمرة حتى بعد الحد من خطر هذا الفيروس الفتاك وعودة الحياة لطبيعتها، لأننا نحتاج إلى استراتيجية حقيقية حازمة وقوية تتسم بالاستمرارية وتمكن من تطوير أداء الإدارة المغربية عن بعد مع الاستمرار في أداء مهامها وفق الطريقة التقليدية، لأنه هناك من الخدمات ما لا يمكن القيام بها عن بعد، والابتعاد عن الحلول الظرفية “الترقيعية” والتي لا يكتب لها الدوام والاستمرار، والأمل كبير في ربح رهان تحديث الإدارة المغربية وانخراطها بكل جدية في مسلسل الرقمنة.
*باحث في الشؤون القانونية والعلوم الجنائية