اَلممثلُ والوضعُ الاعتباريُّ

بقلم إدريس الروخ

بدون شك أن وضعية الممثل تختلف من شخص لآخر، ومن حلم لآخر، ومن حالة لأخرى، في تقاطعات قد تكون متباينة في أحايين كثيرة ..فليس كل الممثلين يحظون بنفس الفرص ..( في الشغل وفي الاهتمام وفي الرعاية وفي الحب وفي طريقة الانتشار)، وليس كل الممثلين لديهم نفس القدرات في التواصل سواء مع ذواتهم ومع من حولهم، أو مع محيطهم الفني، وليس كل الممثلين لديهم نفس المواهب في الأداء وفي التواصل الروحي والتوحد مع ذات الشخصية ومع طريقة تفاعلها مع فعل الإبداع.

ليس كل الممثلين لديهم نفس الهم الفني ونفس الهوس الاجتماعي، ونفس الرغبة في حمل مسؤلية المستقبل على أكتاف العمل الجاد والمسؤول ..وفتح أبواب الأمل لمن صُدّت الأبواب في وجهه ..وزرع بذور حياة جديدة في شرايين أجساد أحبطها قرار مسؤول فاشل أو سياسي معطوب ومغشوش ..

فالممثل بمفهوم الفعل الدرامي وإن كان هو من يجسد شخصية درامية أو كوميدية معتمدا على موهبته وأحاسيسه وتدريباته في بناء الشخصية وتكوينها تكوينا يلائم المكتوب في نص مسرحي أو سينمائي أو تلفزيوني ..فهو أيضا بمفهوم المجتمع ..شخص مختلف في تكوينه وتصرفه وتفاعله مع الأحداث ومع أفراد محيطه ..وهو أيضا ذلك المدرك لسبب فشله أو نجاحه بالتغلب على نمطية الأدوار التي يكررها، أو تلك التي يستهزئ منها ولا يعيرها اهتمام ..أو تلك التي يعشقها لأنه يرى نفسه في توافق تام معها ولا يرغب في ركوب مغامرة تغيير مصيرها وملامحها وحثها على العصيان والتمرد ودخول متاهات البحث المضني لإيجاد نورها هناك، حيث ينعدم النور وتنعدم أدوات التواجد الفعلي ..هناك حيت استحالة ( كن) بدون الرغبة الحقيقي في ( الأنا) و ( الإرادة ).

الممثل بالرغم من وقوفه في خشبة المسرح كل مرة بدور يختلف عن سابقه .. أو تواجده أمام الكاميرا يشخص فعلًا وحدثًا وإحساسًا ينقل السعادة والحب والحلم والأمل والمستقبل للعالم ..بالرغم من كونه يحضر مهرجانًا ويتمشى فوق سجادة حمراء ويحيي جماهيره ويأخد صورًا معهم وهو يبتسم في كل لحظة ..يبدو سعيدا ومختلفا عما ألفه جمهوره في صالات العرض ويبدو أنيقًا ومقبلًا على الحياة ..ويبدو كأنه يعيش زمنه بأكمله في مثل هكذا مناسبات ..لكن الواقع يبدو في أحايين كثيرة مختلف تمامًا عما يبدو ظاهريًا ..فهناك عدد كبير من الممثلين الذين يعيشون حالات قهر وفقر وحاجة…ويشعرون بان ارواحهم تتعذب وقلوبهم تتمزق وأجسادهم تذبل ..وأملهم في اشراقة شمس المستقبل قد أفلت ..ولم يعد لهم سوى الحزن والجلوس في أماكن مظلمة ..والبكاء في صمت ..

تمامًا كشخصيات تشيكوف الغارقة في الإحباط ومساءلة الذات والقابعة في فضاء الانتظار الطويل ..ترقص رقصة ديك مذبوح ..لا أمل ..

هناك فعلًا ممثلون يشتغلون كما لو كانوا مجرد دمى تحركها أيادي الانتهازيين وصائدي الفرص الرخيصة ..وتجار الأحاسيس ..لا يعرفون أن وقوف الممثل فوق خشبة المسرح هو في الأصل وقوف روحه طلبًا للخلاص ..والانعتاق من اللحظة التي أثقلت كاهله ديون كثيرة وأجبرته أن ينحني لريح الرداءة حينًا والتخلي عن رفاهية المبدع حينا آخر ..هو الذي كان فيما مضى صافيا من الداخل ..رقيقا ..حالما ..مبتسما ..وقويا ..هو الذي لم يعرف ان للزمن حسابات اخرى لم يتعلمها الا بعد فوات الأوان ..

رحلة الممثل مع نفسه رحلة شاقة وطويلة ومليئة بالمغامرات ..يرحل بحثا عن الحب لأنه يحتاجه على الدوام ..به ينشد ألحانًا لشخصياته ولنفسه ولمن حوله ..يغني كطائر البلبل بصوت شدي ..فمتعة اللقاء مع الآخر ليس لها حدود ..

يرحل بحثا عن الأمان في مجتمع تكثر فيه فوضى الحواس وفوضى الأمكنة وفوضى العلاقات وفوضى الحرية ..الأمان يجعله يتعرى من أقنعة وخيوط كثيرة وكثيفة ربطته وقيدت حركته وألجمت لسانه ..

يرحل بحثا عن التغيير ..وزرع بوادر الثورة على كل ماهو قديم ..والدعوة الى كتابة المستقبل بلغة الجمال بجسد الحاضر ..ثورة على الشكل وعلى المضمون ..ثورة في داخل الانسان المسن المنهوك بداخلنا ..ثورة تجعل الفن روحًا والمسرح لذة وتطهيرًا والسينما لغة..

Exit mobile version