عصام أمكار
منذ عام 1999، يشهد المغرب تحولات وتطورات غير مسبوقة في تاريخه. هذه التغيرات شملت مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأسهمت في تحقيق تقدم ملحوظ في العديد من المجالات، ومع ذلك، تظهر المؤشرات أن الأغلبية العظمى من المغاربة اليوم تتجاهل الشأن العام وتهجر العمل السياسي والحزبي.
هذا الانصراف عن المشاركة السياسية يشكل تحديًا كبيرًا أمام الدولة وهي تعلن طموحات كبيرة في مجال البناء الديمقراطي والنهوض الاقتصادي والاجتماعي .
لم تعد القوى الاجتماعية تثق في المؤسسات باستثناء الملكية، مما يخلق فجوة كبيرة بين المواطنين والنظام السياسي. هذه ليست حالة طبيعية لدولة تطمح إلى تحقيق الدمقرطة والتنمية المستدامة، حيث تتطلب هذه الأهداف ترسيخ قوي لقيم المواطنة والانخراط والالتزام والجدية. في هذا السياق، تفرض مجموعة من الأسئلة نفسها، والتي تبرز في صميم كتاب الأستاذ سمير بلفقيه “التوجه الأخلاقي من أجل التعبئة”.
من بين الأسئلة الملحة التي يطرحها بلفقيه: هل تعود معيقات التنمية في المغرب حصريًا إلى العوامل الاقتصادية والمالية؟ في الواقع، قد يكون التركيز على الجوانب الاقتصادية والمالية وحدها قاصراً عن تقديم حلول شاملة للتحديات التي يواجهها المغرب، التنمية المستدامة تتطلب نهجًا متعدد الأبعاد يشمل أيضاً تعزيز القيم الأخلاقية والسياسية والاجتماعية.
يسلط بلفقيه الضوء على ضرورة إعادة التفكير في كيفية تعامل المجتمع مع المبادرات الجديدة، موضحاً أن الرفض المستمر للمبادرات وعدم الثقة في النظام القائم يعيق التقدم .
يستمر بلفقيه في التساؤل: هل لا يزال المغاربة يثقون في المؤسسات التمثيلية؟ الثقة في المؤسسات السياسية هي حجر الزاوية لأي نظام ديمقراطي ناجح.
يلاحظ بلفقيه أن تراجع الثقة في هذه المؤسسات يعزى إلى نقص الشفافية والمساءلة، مما يتطلب إصلاحات جذرية لتعزيز النزاهة واستعادة ثقة المواطنين.
تشمل الحلول المقترحة تعزيز القيم الأخلاقية في الحياة السياسية، مما يعزز من مصداقية المؤسسات ويعيد بناء الثقة المفقودة .
كما يتساءل بلفقيه عن وجود طموحات جماعية تحرك الديناميات الاجتماعية في المغرب، الطموحات الجماعية تشكل دافعًا قويًا نحو التغيير والتنمية.
يشدد بلفقيه على أن هذه الطموحات يجب أن تتجسد في رؤى مشتركة وسياسات متكاملة تعزز من مشاركة جميع فئات المجتمع، خاصة الشباب الذين يشكلون العمود الفقري لأي عملية تغيير .
في كتابه، يقدم سمير بلفقيه تحليلاً دقيقًا للوضع الراهن، مشددًا على أهمية التوجه الأخلاقي كوسيلة لتحقيق التنمية المستدامة والتعبئة الاجتماعية والسياسية.
يُظهر بلفقيه شجاعة كبيرة في طرح الأفكار وتشخيص الوضع العام، مقدماً حلولاً عملية تستند إلى تجربته الشخصية الغنية. إنه ليس مجرد كتاب نظري، بل هو دعوة للأجيال الشابة للمشاركة في تأمل جماعي وترشيد المجال السياسي من خلال تبني قيم النزاهة والشفافية والمساءلة.
بقراءة هذا الكتاب، يدرك القارئ أن الإصلاح ليس مجرد شعار، بل هو عملية مستمرة تتطلب التزام الجميع.
يبرز بلفقيه أهمية التعليم كأداة لتكوين مواطنين نقديين ومشاركين في الحياة العامة، التعليم الجيد هو أساس بناء مجتمع قوي قادر على مواجهة التحديات وتحقيق التنمية المستدامة، بلفقيه يدعو إلى تحسين جودة التعليم وتضمين القيم الأخلاقية في المناهج الدراسية، مما يساهم في تنمية الحس الأخلاقي والمسؤولية الاجتماعية لدى الأجيال القادمة .
كما يتناول بلفقيه تأثير تقنيات المعلومات والاتصال على المشاركة السياسية، في عصرنا الحالي، توفر هذه التقنيات فرصاً هائلة للتعبئة والمشاركة، ولكنها أيضاً تشكل تحدياً بسبب انتشار المعلومات المضللة والاستقطاب، يشدد بلفقيه على أهمية التعامل بحذر مع هذه التقنيات، وتطوير سياسات تحمي المواطنين من تأثيراتها السلبية وتضمن استخدامها بشكل إيجابي لتعزيز الديمقراطية والتعبئة السياسية .
وفيما يتعلق بأزمة الثقة في المؤسسات التمثيلية، يرى بلفقيه أن تبني نهج أخلاقي في السياسة يمكن أن يكون له تأثير كبير في استعادة الثقة، تعزيز الشفافية والمساءلة يعتبر خطوة أساسية لتحقيق ذلك، هذه القيم ليست مجرد مبادئ نظرية، بل هي أدوات عملية تساهم في بناء مؤسسات قوية وفعالة تستند إلى مصلحة المواطنين .
بلفقيه يركز أيضاً على دور الشباب في العملية السياسية، مشيراً إلى أن الشباب هم العنصر الأساسي لأي عملية تغيير، يشدد على ضرورة إشراكهم في العملية السياسية وتوفير الفرص لهم للتعبير عن آرائهم والمشاركة الفعالة في صنع القرار، بناء جيل جديد من القادة الشباب يتطلب توفير التعليم الجيد والتدريب المستمر، بالإضافة إلى خلق بيئة تتيح لهم الفرصة للنمو والمشاركة .
يشدد بلفقيه على أن التنمية المستدامة تتطلب سياسات عامة متكاملة تضع مصلحة المواطن في قلب اهتماماتها، هذه السياسات يجب أن تستند إلى قيم أخلاقية تضمن العدالة والمساواة، وتكون قادرة على التكيف مع التغيرات السريعة التي يشهدها العالم، يشير بلفقيه إلى أهمية التعاون بين القطاعات المختلفة وبين الحكومة والمجتمع المدني لضمان تحقيق التنمية الشاملة .
أخيراً، يؤكد بلفقيه على أن التغيير يبدأ من الفرد ويتطلب التزاماً جماعياً، التحول نحو التوجه الأخلاقي في السياسة هو عملية مستمرة تتطلب تعاون الجميع، يدعو بلفقيه إلى تعزيز دور المؤسسات الحكومية في تحقيق الشفافية والمساءلة، مما يعزز من ثقة المواطنين في النظام السياسي، يشدد على أن التغيير لا يمكن أن يحدث بين عشية وضحاها، بل هو نتيجة لجهود مستمرة ومضنية تستهدف بناء مجتمع أكثر عدلاً وإنصافاً .
من خلال هذا المقال، ندعو الجميع لقراءة كتاب سمير بلفقيه الذي يقدم رؤية شاملة وعميقة للإصلاح والتنمية في المغرب، بصفته أحد أفراد النخبة المغربية وفاعل سياسي مؤثر، يقدم بلفقيه تصوراً واقعياً وملهماً لتحقيق مستقبل أفضل .
إن فهم التحديات والفرص التي نعيشها من خلال هذا الكتاب يمكن أن يكون خطوة أولى نحو تحقيق التنمية المستدامة والاستقرار .
كتاب “التوجه الأخلاقي من أجل التعبئة” ليس مجرد مجموعة من الأفكار النظرية، بل هو دليل عملي للتغيير الإيجابي. يقدم بلفقيه من خلال تجربته الشخصية رؤى وحلولاً يمكن تطبيقها على أرض الواقع، مما يجعله مرجعاً مهماً لكل من يسعى لفهم التحديات الراهنة والعمل من أجل مستقبل أفضل .
ثمة نبرة جديدة في خطاب سمير بلفقيه، فيها إلحاح على ابتكار صيغ جديدة للتفكير الجماعي، وتوكيد على سمو الحوافز المعنوية، وأهمية التوسيع المستمر لدائرة المشاركة، والأهم هو رهان الثقة التي يجب أن تبنى كواجب وطني، وكأمانة مشتركة محفوظة عند الجميع .
نعم في هذا الكتاب نبرة جديدة، مفتوحة على المستقبل الذي يستحقه المغاربة، المستقبل الذي يراه سمير بلفقيه متاحا للمغاربة مستقبل تصنعه الحوافز المعنوية ووعي الممكنات الذي لا يتراجع أمام تحديات المرحلة والعصر .
في الختام أتمنى ان تظهر الترجمة العربية لهذا الكتاب الذي يرفع درجة التركيز من أجل أن تبقى حيوية الفعل السياسي اكثر رسوخا من حماسة الشعارات .